Friday, July 15, 2011

الجريمة الطائفية




يصر فريق منا على التهوين من جريمة «نجع حمادى»، تأسيساً على أنها جريمة عادية، هى جريمة شرف وأهلنا فى الصعيد لا يتهاونون فى مسألة الشرف، هى كذلك جريمة ثأر، والأخذ بالثأر أمر عادى فى الصعيد وكذلك مسائل الشرف، وهكذا يعطى بعض «المستنيرين» انطباعاً بأن جرائم الشرف والثأر أمور يجب أن تكون عادية ومقبولة، وعلى الأقل يجب تفهمها ومن ثم التسامح معها والتهوين من خطورتها.

وبغض النظر عن هذا الجانب فإن جريمة «نجع حمادى» هى فى النهاية، جريمة طائفية، بكل المقاييس.. صحيح أن هناك مجرماً اغتصب طفلة، وهى جريمة بشعة، وذلك المجرم مسيحى الديانة والطفلة مسلمة.. والمجرم ينبغى أن يحاسب بالقانون وأن يحاكم، والقاضى الطبيعى هو الذى يقر العقوبة، لكن الذين قرروا الثأر من المجرم تحركوا بدوافع طائفية محضة،

وذلك واضح فى التخطيط والتنفيذ، فقد حددوا يوم عيد الميلاد المجيد، الذى يحتفل به أقباط مصر، موعداً لتنفيذ العملية أو ساعة الصفر، هم كذلك قرروا أن يكون التنفيذ لحظة خروج المسيحيين من الصلاة، وأن يكون القتل عشوائياً بين المسيحيين عموماً، وليس الفرد المجرم بعينه، ناهيك عن أن يكون المستهدف هو رأس الكنيسة فى تلك المدينة، باختصار قرر «الثائرون للشرف» أن الذى اغتصب الطفلة يمثل عموم المسيحيين والكنيسة ورأس الكنيسة فى المنطقة وأنهم جميعاً يجب أن يحاسبوا على تلك الجريمة ويدفعوا ثمنها.

إذا فهمنا الجريمة على أنها مسألة ثأر وشرف أو أنها جريمة طائفية، ففى الحالتين هى انتهاك لمبدأ القانون، ومفهوم الدولة التى يجب أن تقوم على تنفيذ القانون، أما أن يأخذ فرد أو مجموعة بأيديهم وضع القانون وتنفيذه فتلك حالة بدائية يجب التصدى لها ومقاومتها، وحيث إنى ممن يرونها جريمة طائفية بامتياز فيجب أن نناقش بصراحة هذا النوع من الجرائم التى تزداد وتيرتها وتتفاقم خطورتها، شهرا بعد شهر، وأنا ممن يقولون إن هذه الجرائم فى طريقها إلى الازدياد والاتساع.

نحن فى مجتمع شاع فيه مناخ ثقافى وسياسى يتنفس الطائفية والأصولية، فقد أزحنا الهوية الوطنية، رغم أننا نتغنى بمصر مع كل مباراة كرة قدم، ورغم أن مفهوم المواطنة صار مادة أساسية فى الدستور، ونحن أسقطنا الهوية القومية يأساً أو عجزاً وربما فشلا، ولم نحاول بناء هوية إنسانية بالمعنى الواسع للكلمة، وهكذا لم يبق للفرد منا سوى الهوية الدينية،

فإذا كان المسلم فى مواجهة المسيحى، يبرز البعد الطائفى، وإذا كان المسلم فى مواجهة المسلم، ظهر التصنيف المذهبى «سنى/ شيعى»- أو التصنيف الأيديولوجى.. سلفى أو أصولى فى مواجهة العلمانى «الكافر»، وإن كان الأمر يتعلق بالبهائية ظهرت مقولات الإسلام والمسيحية معاً ضد الأديان غير السماوية وأنه لا مكان لغير الأديان السماوية على أرض مصر!

فى مثل هذا المناخ يمكن أن ينفجر المجتمع بسهولة إذا غازل شاب فتاة وتبين أنه ينتمى إلى دين غير دينها، طبعاً لا غضاضة فى أن يتحرش بها أو حتى يغتصبها إذا كانا ينتميان إلى دين واحد. ساعتها تظهر مفاهيم مثل الستر وتجنب الفضيحة للتغطية على ما يقع من الفتى تجاه الفتاة، حتى لو كان هتك عرض، بالمعنى المباشر الصريح، ولدينا تراث هائل يسوغ ذلك ويمرره بسهولة.

سوف يبقى الاحتدام الطائفى قائماً والصدام متوقعاً بين لحظة وأخرى، طالما بقيت الهوية الدينية تطغى وتسحق الهويات الأخرى، بدءاً بالهوية الإنسانية، التى تحترم إنسانية الإنسان فى المقام الأول، وتقيم الاعتبار لها بغض النظر عن أى بعد آخر من دين وعرق أو جنس أو حتى ثروة.

المعروف أن أى هوية إذا تضخمت وطغت على ما عداها فإنها تؤدى إلى كارثة كبرى، فى العصور الوسطى حين طغت الهوية الدينية ظهرت الحروب الصليبية، وفى ألمانيا عندما طغت الهوية الوطنية برزت النازية ومعها الحرب العالمية الثانية.. وهكذا، وفى حالتنا نحن علينا العمل على الحد من تضخم الهوية الدينية- الطائفية- وذلك بالتأكيد على مفهوم سيادة القانون وبناء الدولة المدنية.. دولة الحق والواجب.. دولة المواطنة التى لا تميز بين مواطن وآخر وفق ديانته أو طبقته وما لديه من ثروة، فضلاً عن الجنس ذكراً أو أنثى، دولة يصبح فيها الإنسان هو القيمة الكبرى، التى يجب الحفاظ عليها، وهذا مالا نقوم به، فلا إعمال للقانون، ولا تأكيد على مفهوم الدولة المدنية،

والدليل أن كل الجرائم الطائفية يتم التعامل معها بتبويس الأكتاف وجلسات الصلح العرفى، أو ما نسميه «قعدة عرب» أو «قعدة المصاطب».. ولا نعرف حالة واحدة منذ واقعة الخانكة سنة ١٩٧٢، سارت حتى نهايتها وفق القانون المدنى والقانون الجنائى، وفصل فيها القضاء فصلاً نهائياً باتا، والحاصل أننا نهرول سريعاً نحو اللادولة، بل إن المجتمع نفسه يتفكك ويتفتت مع كل حدث عابر.

تحجيم الهوية الدينية وردها إلى حجمها الطبيعى لا يعنى بأى حال المساس بالدين أو بالشعور الدينى للمواطنين، بل إنه حماية للدين ذاته، وما جرى فى «نجع حمادى» هو فى أحد جوانبه إساءة للدين الإسلامى، وإساءة لعموم المسلمين- ناهيك عن أنه إساءة لمعانى المصرية الحقة، فما يقع من جرائم طائفية إساءة وأمر مشين لنا جميعاً كمصريين، سواء كنا مسلمين أو مسيحيين.. وهو أمر غريب أن يحدث فى مصر وبين المصريين.

فى سنوات الإسلام الأولى، وحين ضاقت السبل بالمسلمين الأوائل فى مكة، وتعرضوا لاضهاد شديد، نصح رسول الله أتباعه وصحابته بأن يهاجروا إلى الحبشة، حيث ملكها الذى «لا يظلم عنده أحد»، وعاش هؤلاء الصحابة سنوات فى كنف ملك الحبشة المسيحى، ولم يجدوا غضاضة فى ذلك، وبالتأكيد لم يجدوا تعارضاَ أو عداء دينياً مع معتقده، وإلا لما عاشوا سنوات معززين مكرمين،

ويفوتنا جميعاً أن ملك الحبشة آنذاك وشعبه كانوا يتبعون كنيسة الإسكندرية، وكان بطريرك الإسكندرية هو الذى يقوم بترسيم رأس الكنيسة فى الحبشة، وكان مسيحيو الحبشة جزءاً من رعية الإسكندرية ويلتزمون بموقفها العقائدى، الذى لم يجد صحابة رسول الله فيه أى غضاضة، أى أنهم كانوا يعيشون وسط المسيحية المصرية، وتقبلوها وتقبلتهم، وإذا كان هذا حدث مع صحابة رسول الله، فماذا نسمى ما يقع بيننا اليوم؟!! وما هذا العداء والاحتدام، الذى يجرح المعانى الإسلامية النبيلة ويمس الروح المصرية بكل ما تنطوى عليه من معانى التعايش والإخاء؟

ما حدث أننا تسامحنا مع خطاب ومع فريق يسخر من مصريتنا لصالح فكرة أممية، وارتضينا يوماً من يعلن بأعلى صوته «طظ فى مصر» وأنه يقبل أن يحكمه ماليزى، مادام مسلما وأن المسلم الباكستانى أو الهندى أقرب إليه من المسيحى المصرى، ونشرت كتب ورسائل تردد مثل هذا الكلام، ونحن تسامحنا مع أفكار طائفية، تأمل أننا نردد يومياً الحديث عن «عنصرى الأمة».. وهذا محض كذب، فالأمة المصرية عنصر واحد.. عرق واحد، فقط بينهم من هو مسلم ومن هو مسيحى، ويمكن أن يكون هناك فى أسرة واحدة مسلم ومسيحى، فلماذا نجعلهما عنصرين..؟

الأمر جد خطير ويستحق جدية أكبر فى التعامل، وإلا فهى الفوضى واللادولة، بل اللا مجتمع وفى النهاية اللاوطن، وهذا ما يجب أن نسعى بجدية لتجنب الاقتراب منه.

No comments:

Post a Comment