Friday, April 13, 2012

الحريات الدينيه بعد ثورة يناير



عام 1761 في مدينة تولوز بفرنسا قام أب متهور بقتل ابنه لأنه أراد أن يتحول من البروتستانتية و هي عقيدته الأصلية إلى الكاثوليكية فيما يسمى بحادثه " كالاس Calas " و قد اهتم " فولتير" كثيرا بهذه القضية مبينا ضرورة التسامح الديني و الحريات الدينية قبل ان تزدهر هذه القيم و تنتشر في فرنسا و تدعهما قوانين ما بعد الثورة لتي حفظت الحريات الدينية للمواطنين و وضعت العقل على رأس المبادئ الأساسية لبناء الدولة الفرنسية ألحديثه.
و لا يمكننا أن ننكر أبدا أننا بالرغم من مرور نحو قرنين و نصف على حادثه كالاس فإننا مازلنا نفتقد و بشده قيم التسامح الديني في مصر التي اختفت تدريجيا منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن و رغم الكثير من المحاولات لوضع و ترسيخ مفهوم التسامح الديني إلا أنها تاهت وسط موجات من التعصب الديني التي تأتى من خارج مصر محمله في عقول المصريين العائدين من دول تحتضن هذه الأفكار التعصبية و أصبح من الصعب جدا على المفكرين مقاومة هذه السيطرة الدينية الجارفة.
و لهذا أيضا ارتباطه بالسياسة و النظام السابق الذي كان يقمع المفكرين و المثقفين الغير متفقين مع سياساته مما ترك الساحة خاليه أمام التيارات الدينية السلفية Salafists و التي لا تتدخل في الشئون السياسية - و لديها مبرراتها الدينية التي تبعدها تماما عن شئون السياسة – و قد ساعدت هذه التيارات الدينية في تغييب المواطن المصري عن الواقع الذي يعيشه و أعطت الحاكم شرعيه للقمع و التسلط و كان لصعود هذه التيارات السلفية أثره في تضييق الحريات الدينية في مصر لما تحويه هذه التيارات من أفكار تدفع إلى التضييق على الأخر و الانغلاق و التشدد.
و مما لاشك فيه أن يحدث صدام بين الأفكار التي تحملها هذه التيارات و بين الأفكار التنويرية التي تعقب الثورات عادةً, و لقد كان شعور فلاسفة النهضة الفرنسيين بالعداوة تجاه الدين و الكنيسة هو نتيجة طبيعيه لسيطرة الكنيسة على المجتمع و ما يدور في فلك أفكاره بل و تواطئها في هذا الوقت مع نظام استبدادي سلطوي
ولتفادى هذا الصراع في مصر الذي سيكون محتدما إذا حدث يجب علينا أن ننتقل تدريجيا بالدين داخل العقل المصري من موقعه الحالي إلى مكانته الطبيعية, و تصعيد العقل و العقلانية لتصبح هي مصدر الأفكار و أساس المعاملات و القوانين المنظمة لها و قد كتب ديدرو في مقاله عن العقل ( أننا أناس قبل أن نكون مسيحيين ) و على المصريين أن يدركوا أنهم أيضا أناس قبل أن يكونوا مسيحيين و مسلمين و بمعنى أخر فان "الاعتقاد الديني هو مسألة فرديه" 
الإيمان بهذا المفهوم - أن الاعتقاد الديني هو مسألة فرديه - هو أول الخطوات التي ستضعنا مباشراً أمام دوله مدنيه انطلاقا من حرية الكل في الاعتقاد طالما أنها مازلت مسألة فرديه و لا تتعرض للعلاقات أو التعاملات و لهذا أيضا ارتباطه بالحريات الاجتماعية لما للدين من تأثير على علاقات البشر بعضهم و بعض و تحديد سقف للحريات الاجتماعية لذلك فان ما أن يفهم الدين و الاعتقاد الديني على انه "مسألة فرديه" هنا فقط يستطيع القانون أن يحل محل الدين ليحدد هو سقف الحريات و طبيعة السلوك و المعاملات بين المواطنين و من ثم ينظم القانون هذا المفهوم عن طريق تشريعات أولا تحفظ الحرية الدينية لصاحبها و تحميها و ثانيا تنظم الحريات الاجتماعية انطلاقا من مفهوم أخر لهذه الحريات غير مبنى على الدين.
طه حسين, احد رواد النهضة المصرية في أوائل القرن العشرين كتب احد أكثر الكتب إثارة للجدل في مصر عام 1926 (في الشعر الجاهلي) و اتفق معه البعض كما اختلف معه البعض الآخر, رغم أن الكتاب يحمل وجهة نظر دينيه تخالف كل السائد في هذا الوقت, إلا انه وجد مناصرين و منتقدين و احتدم النقاش على صفحات الكتب وقتها و في جلساته الفكرية حول هذا الكتاب, و إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن المصريين لديهم قبول واسع للأخر و ليسوا عشاقاً للقمع الذي تركه في نفوسهم النظام السابق.
فالمصريين ليسوا متعصبين دينيا بطبيعتهم و قد شهدت مصر سنوات من الحرية الدينية و كانت على مدار قرون تحتضن كل الأشكال العقائدية, و لتعدد الالهه عند القدماء المصريين مدلوله لمدى تقبل المصريين لفكرة الاختلاف الديني و لكنه و للقمع الغير مسبوق الذي 
مورس على المصريين في الفترة ألأخيرة و على المتدينين منهم ممن لديهم آراء تزعج النظام السابق كان المصريين يقومون بما يشبه الهجرة في التاريخ داخل العقل لما هو أفضل من وجهة نظرهم و لما يعطى لهم من بريق للهويه المفقودة في الواقع الذي يعيشونه و لما يعطى لهم أيضا من كرامه سلبت منهم في عهد النظام السابق و ربما أيضا لأن الحلم بالحياة الأخرى و التي هي بالتأكيد الجنة هو أفضل من معايشة واقع اليم فرضه القدر عليهم
إذن هم هربوا من الواقع إلى حاله من التدين و قد ساعد على هذا صعود التيارات الدينية الأصولية و أفكارها القادمة من الجزيرة العربية لما تشكله من محفز لهذا التدين و وقود له و هذه الأفكار صاحبتها أفكار تعصبيه ضد الأخر مما خلق نوع من الأنانية و التعنت الديني, و للخروج من هذه المعضلة لابد لنا أولا أن نعيد للعقل مكانته لدى المصريين فالعقل هو الدافع الحقيقي وراء التسامح الديني و ليس الدين و لا يمكن أبدا السيطرة على الأخر باسم الدين لأنه سيؤدى بالضرورة للانتقاص من حريته.
بالرغم من سطوة رجال الدين أحيانا و قمعهم للأفكار إلا أن الأفكار لا تقمع و لا تموت أبدا و لقد كان الحرق العلني لكتاب ( رسائل فلسفيه ) لفولتير عام 1734 بحجه انه مخرب و انتهك حرمة المقدسات كان سببا في نجاح الكتاب بشكل قوى و دفع فولتير إلى كتابة المزيد من الكتب المشابهة و كذلك كتاب ( عن الروح ) لهلفتيوس و الذي احرق علانية من قبل الكلية اللاهوتية فزادت شعبية الكتاب بشده و ترجم إلى كل اللغات الأوروبية.
و هناك الكثير من الكتاب و المفكرين المصريين الذين دعوا إلى الحرية الدينية و تبنوا ما يطلق عليه "الإسلام الليبرالي" أمثال "محمد عبدو" و "طه حسين" و "فرج فوده" و لقد هوجمو فيما بعد لأفكارهم الليبرالية و قتل احدهم لنفس السبب ( فرج فوده ) و لكن الأفكار تعيش للأبد و لا تموت و لا تسقط إلا بأفكار مضادة لها.
لا مفر من تكريس هذه المفاهيم في نفوس المصريين باستخدام كل وسائل التعبئة الممكنة, و لن يستغرق هذا كثيرا فأعتقد أن المصريين في غالبيتهم يتبنون الحد الأدنى من الحريات الدينية ربما ينقصهم اكتمالها فقط و هناك من سمات المصريين الموروثة ما يعزز هذه الحريات, فالمصريين يهوون العلاقات الاجتماعية و تربطهم أواصل أكثر بكثير من أن تكون دينيه, و قبولهم لبعضهم البعض هو الأقرب من اختلافهم, يبقى لنا فقط العمل على توعيتهم بهذه القيم أكثر و سن القوانين التي ستحافظ عليها. 

Friday, April 6, 2012

مزايا العفو والتسامح كقيمة سلوكية



لنكن متسامحين حفاظا على صحتنا الجسمانية والعقلية وعلى علاقاتنا الاجتماعية
الكراهية والحقد كعائق للشعور بالسعادة 
قد لا نضيف جديدا بتأكيدنا أن العيش على إيقاع الحقد والكراهية يعمل على تسميم الحياة اليومية ويبعث على الكآبة والحزن وبالتالي يشل كل إمكانية للشعور بالسعادة والمرح مهما توفرت الشروط لذلك 
ومن زاوية فزيولوجية فإنه يؤدي إلى ارتفاع الضغط وإحداث الكثير من الاختلالات في الوظائف الجسدية كعسر الهضم ، والشعور بالإنهاك والتعب وانسداد شهية الأكل وما ينجم عن ذلك من انحسار مستوى الإقبال على الحياة 
من منا لم يخبر هذا الشعور إثر نزاع أو تصادم مع شخص ما سواء في حياته الخاصة أو المهنية أو الاجتماعية بمختلف مجالاتها 
هذا إذا لم نقل بأن سقف التوترات غالبا ما يعيق اوكسجين الحياة الطبيعية عبر الكثير من
تفاعلاتنا 
التوتر كإفراز طبيعي لبنياتنا السسوثقافية 
ولعل واقعنا العربي مليء للأسف بأسباب التوتر لدرجة الاختناق .......حيث تهدر طاقاتنا الخلاقة للأسف في تدبير انعكاساته النفسية وحتى الاجتماعية الناتجة عن شروطنا المعيشية في مختلف مستوياتها ....هذا إن كانت هناك محاولات بالفعل للتدبير .....
ذلك أن تنشئتنا الاجتماعية في ظل هيمنة قيم ذات طابع إطلاقي بل تسلطي في الكثير من الأحيان قلما تؤهلنا للتعايش مع الآخر بشكل يضمن احترام خصوصياته واختيارته 
علما أن التسلط الاجتماعي هو أحد أشكال التسلط السياسي وربما الأكثر إيلاما وقدرة على تحجيم الناس وتكبيل انطلاقهم وتحويلهم إلى كراكيز مسلوبة الإرادة رغما عنهم
ولعل فشلنا في تحقيق أنظمة ديموقراطية حقيقية يجد أحد أسبابه الأكثر عمقا في أنظمتنا السسيوثقافية التي لا تعترف بحق الفرد وحاجياته النفسية خارج ترسانة التحريم والتجريم والتقزيم 
ذلك أن بنياتنا ذات الطابع المشوه غالبا ما تلقي برزحها على نفسياتنا وتحكم على أغلبيتنا الصامتة بالعيش في نوع من البؤس النفسي الذي تتفاوت درجاته حسب قدراتنا الشخصية في تدبير هذه التناقضات أو التناور عليها لاقتلاع نصيب ما من السعادة والإقبال على الحياة في ظل هذه الفوضى المنظمة في أغلب فضاءاتنا 
من هنا يمكن أن نفهم ذلك الحجم الهائل من الصراعات والنزاعات والتصادمات التي تخترق مختلف فضاءاتنا،بما فيها تلك التي تلتحف بأردية ذات طابع حداثي كالأحزاب والجمعيات المدنية والإدارة ....و...و
ولا بد من التنبيه إلى أن الرهانات الفكرية أو الاجتماعية أو حتى الذاتية غالبا ما تخفي وراءها ضرائب ذات طابع نفسي قلما يتم الاهتمام بها وسط زخم تنافساتنا المحمومة التي لا تخلو بالتأكيد من توترات تتفاوت في درجتها وأهميتها وانعكاساتها 
في هذا السياق يمكن أن ندرج أهمية القدرة على التسامح كقيمة أخلاقية وفعل سلوكي له بالتأكيد فوائد اجتماعية ونفسية وعقلية غنية عن البرهان . بل كإحدى أدوات تدبير الخلافات والنزاعات الملازمة لمختلف تفاعلاتنا ....
لكن هل نستطيع جميعنا استبطان هذه القيمة الأخلاقية الكبرى وتحويلها إلى سلوك يسهم في سلاسة علاقاتنا الاجتماعية ؟
لا شك أن ذلك يتطلب مجهودا كبيرا من طرف كل واحد منا ، ولعل أول مجهود يبدأ بالاقتناع بأهمية هذه القيمة الأخلاقية وتحويلها إلى سلوك عملي يحضر باستمرار وتواتر في مختلف تفاعلاتنا 
ولتسهيل هذه المهمة أورد فيما يلي المراحل التي يجب التمرن عليها حسب الأخصائي النفسي Nicolas Sanders –- بنوع من التصرف 
المرحلة 1 : أن نقبل بمراجعة الوضع حيث نبدأ باتخاذ مسافة تمكننا من رؤية الأمور بموضوعية أكثر....لاشك أن هذه المسافة ستجعلنا نحلل الأمور بطريقة مختلفة عن تلك التي باشرنا بها الأمور و نحن مقتنعون بأننا مجرد ضحايا للآخر الذي نعتقد جازمين في اعتدائه علينا بشكل من الأشكال 
المرحلة 2 : الاستعداد لإقرار العفو والتهييء النفسي لاتخاذ هكذا موقف 
المرحلة 3 : نحاول استشعار نوع من التعاطف مع المذنب أو المعتدي أو من أخطأ في حقنا ونغير موقعنا من موقف الضحية إلى موقع المتفرج أو الفاعل . لاشك أن هذه المرحلة تجسد نقلة نوعية في عملية التغيير المراد إنجازه 
فمن الضروري محاولة تفهم سلوك الآخر من خلال تحليل مختلف حيثياته وقد يفضي بنا ذلك إلى الشعور بنوع من التعاطف 
عندما نتوصل لتحقيق ذلك ننتقل للمرحلة التالية
المرحلة 4 : التخلص النهائي من مشاعر العداء أو الكراهية التي تجعلنا نتألم كلما تذكرنا الواقعة , وهي مرحلة تشبه عملية التقيؤ حيث تتخلص المعدة من المواد غير المرغوبة فكذلك على المستوى النفسي يمكن أن نقوم بنفس الشيء لتطهير المشاعر وتحويلها نحو ما هو إيجابي ولا بد من التذكير بأن العفو أو السماح ليس هو النسيان . ولا يمحي الواقعة بشكل نهائي .مالا نستطيع تجاوزه يتحدد حسب الوعي الخاص لكل منا للحادث أو الواقعة ،مع ذلك فإن القدرة على السماح لها فوائد جسمانية وعقلية ، وبالتالي ففعل السماح ينبيء عن نبل السلوك والشخصية ويؤهلنا لعلاقات اجتماعية أكثر سلاسة ونجاحا 

Friday, March 30, 2012

التسامح...القيمة المنسية في قراءة - عزازيل-



وسط الضجة التي أثارتها رواية" عزازيل" والنقاش الذي يجعلها تبدو وكأنها موجهة للنيل من الديانة المسيحية، والتساؤل عما كان يمكن أن يواجهه الدكتور الروائي يوسف زيدان لو أنه تناول التاريخ الإسلامي بالطريقة ذاتها وبالعمق ذاته من النقد، تغيب أهمية الجانب الإنساني فيها ليشغلناـ كما هو الحال دائماـ الجانب الذي يحرك غرائزنا ويصلح وقودا لمعاركنا، فننسى كل ما فيها من الجماليات والإيجابيات التي ليس أقلها ضرورة قبول الآخر والحض على زارعة بذور التسامح.
ما يناقشه الروائي يوسف زيدان في رواية" عزازيل" هو قصة تطور الأديان والعقائد المقدسة، من دون استثناء تقريبا، من ناحيتين: الأولى هي أن كل دين، من وجهة نظر المتشددين المؤمنين به، يقوم على فكرة أنه الصح الوحيد وأنه دين الحقيقة المطلقة، وغيره باطل مطلق. والثانية أن العنف والإقصاء كانا دائما الوسيلة الأكثر استعمالا لإزاحة الخصوم داخل العقيدة ذاتها بحجة المحافظة على نقائها، وقتل المخالفين من العقائد الأخرى لأن الرب الذي آمن به صاحب هذه العقيدة الجديدة لم يعد يتقبل هؤلاء المخالفين له، وكأن الرب ولد مع ولادة إيمانه الجديد المتعصب. 
لعل أهمية الراهب هيبا القادم من أعماق الصعيد المصري تكمن في تساؤله عن هذه النقطة من دون أن يسلم بها وهو في رحلته الطويلة على مسرح الجغرافية المسيحية الممتد على أكثر من قارة في القرن الخامس الميلادي متجها إلى كهوف البحر الميت لمواجهة خريطون أكبر الرهبان المعروفين آنذاك، بعد الإقامة في الإسكندرية لبعض الوقت، ليسأله عن حقيقة الإيمان. يقول هيبا" وأفضيت إليه بفزعي من أنهار العنف التي تتدفق في أرض الله ورعبي من القتل المروع الذي يجري باسم المسيح وصرحت له باحتياجي إلى اليقين وافتقاري إليه".
ربما كانت طفولة هيبا وراء عدم تسليمه النهائي وأنه منذ اللحظات الأولى لإيمانه لم يشعر أنه بلغ النهاية وامتلك الحقيقة المطلقة. فقد رأى مقتل والده الوثني على أيدي إخوانه، المسيحيين لاحقا، بطريقة ساهمت في تشكيل اللاوعي المتسائل دوما عن الحقيقة الإيمانية. رآه يُقتل بأبشع طريقة باسم الإله الذي لم تتوقف أنهار الدماء عن التدفق باسمه. وما أن أدار ظهره على موت أبيه حتى فُجع بالتشدد يقتل أكثر من أمومة وأبوة ممثلتين ب"هيباتيا" الوثنية و"أستاذة الزمان" وعالمة الرياضيات والفلسفة ثم حبيبته أوكتافيا، ولتنتهي حياته بشكل ما بمقتل أبيه الروحي الأسقف نسطور، ولكن ليس موتا جسديا، وإنما روحيا هذه المرة.
عبر التاريخ كان المتشددون والمتعصبون يرفضون دائما أن يدركوا أن حقهم هو باطل غيرهم، وباطلهم حق غيرهم، وأن ما هو صحيح يقتلون الناس من أجله الآن قد يتبين أنه خطأ بعد زمن ما. لقد أدرك الراهب والطبيب هيبا وهو يسلك طريق الضعفاء المساكين، ويقدم رواية الذين لم يكن لهم نصيب في اعتلاء عروش السلطة الدينية أو الزمانية، بعد القضاء على خصومهم، أن" كل المهرطقين هنا كانوا مبجلين هناك وكل الآباء مطعون عليهم عند غير أتباعهم"، كما يقول هيبا. والواقع أن تلك هي سيرة كل العقائد التي تعتقد أنها الوحيدة التي تمتلك الحقيقة والتي لا يتسع الصراط المستقيم إلا لها وحدها. هذه واحدة من الحقائق الإيمانية القائمة على التسليم المطلق والتي قلما يخضعها المؤمن بها إلى تساؤل العقل الذي ربما كان سيقول له: لو كان هذا صحيحا لما بقي على وجه الأرض سوى ديانة واحدة. ولو لا أن كل شخص يؤمن أن عقيدته صحيحة لما استمر وجود الأديان والمذاهب بهذه الأعداد الكبيرة عبر التاريخ. كان يكفي وجود ديانة واحدة فقط. على ضوء هذه الفكرة يمكن فهم ما يقوله الراهب هيبا" طافت بذهني الآيات التوراتية المشهورة التي لا يمكن أن يصدقها غيرنا؟" أليس في كل العقائد والديانات ما يشبه ذلك، لو تركنا العقل يطرح أسئلته بحرية، بعيدا عن التسليم المطلق؟ 
من حق كل مؤمن أن يرى أن عقيدته صحيحة، وأن يتمتع بحرية الاعتقاد بها من دون أن يسفه أو يسيء لعقائد غيره. ولعل هيبا يجسد روح الراهب المطلوب في كل الديانات وكل الأزمان، وتحديدا في هذا العصر الذي تزداد فيه قيمة التسامح وأهميته مع تزايد أنهار الدم في كل مكان، وأن نعيشه سلوكا يجعل الأرض تتسع لنا جميعا. ولذلك كان مستعدا للبحث الدائم عن الحقيقة أكثر من بحثه عن الكفار الذين يجب أن يقضي عليهم وعلى عقائدهم. وكان جاهزا باستمرار لمعالجة من يأتيه من المرضى من دون أن يسأله عن عقيدته أو يتقاضى منه أجرا. وبهذه الروح استطاع أن يصغي إلى أوكتافيا الوثنية وهي تتحدث عن إلهها الوثني فتقول" إلهنا سيرابيس هو إله كل العالم. ولا بد أن نظهر احترامنا له رغم أنف كل المسيحيين بمن فيهم الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني نفسه".
رواية "عزازيل"، التي تنبش صراعات الكنيسة المسيحية في مراحل تكونها الأولى كمؤسسة كونية ترعى كل شؤون المؤمنين، هي قصة الصراعات التي تكونت نتيجتها كل الأديان، وحدث خلالها معارك دامية وعمليات تصفية لكل مخالف إما بالقتل الجسدي أو الفكري. ومن هنا يمكن قراءة الرواية على أنها عرض حي لمسيرة التعصب والتشدد لتظهر أهمية التسامح كقيمة سامية أخطأ الإنسان في كل لحظة تجاهلها، وأهمية المحبة كدرب يضيء الدرب ويجدد الأمل الذي يعطي الحياة معناها الأكثر جمالا.
وأخيرا ربما يحق للقارئ أن يتساءل عن بذور الأعشاب الطبية التي زرعها الراهب الطبيب على حافة التل الذي يحمل الدير قبل اللحظات الأخيرة من انهيار حلمه بعزل الأسقف نسطور ونفيه، ثم غياب مارتا المفاجئ. هل نمت تلك البذور وأعطت ثمارها؟ من المنطقي أن نستنتج أنها ماتت بدليل استمرار العنف والتعصب وتدفق أنهار الدماء باسم المقدس، بغض النظر عن اسمه منذ القدم وحتى الآن.
منشورة في صحيفة "أوان" الكويتية

Friday, March 23, 2012

غرس فضيلة التسامح


فضيلة التسامح من أكثر الفضائل التي يجب أن نزرعها في أبناءنا لنجنبهم مخاطر التعصب والكره والبغض والإعتداء على الآخرين وخاصة هذه الأيام التي نحتاج فيها لهذه الفضيلة بكل قوة حتى يعود الأمن والأمان والمحبة بين أفراد الشعب الواحد ونترك محاسبة المقصرين والمفسدين لهيئة العدالة الجتماعية بالدولة.
يتفضل حضرة بهاء الله : 
(من إعتاظ عليكم قابلوه بالرفق والذي زجركم لا تزجروه دعوه بنفسه وتوكلوا على الله المنتقم الجبار )كتاب الأقدس
(لا تعترضوا على العباد إن وجدتم من أحد رائحة البغضاء ذروه في خوضه متشبثين بأذيال رداء عناية ربكم فالق الأصباح ، لا تعتدوا على من إعتدى عليكم ليظهر فضلكم وعنايتكم بين العباد كذلك نزل من قبل من مشيئة ربنا المنزل القديم ) كتاب أمر وخلق الجزء الثالث الصحفة 226 
(تالله الحق لو أنتم تظلمون أحب عندي من أن تظلموا على أحد وهذا من سجيتي وأحسن خصالى لو أنتم من الموقنين ، أن أصبروا ياأحبائي في البأساء والضراء وأن يظلمكم من ظالم فأرجعوا حكمه إلى الله الذى بيده ملكوت كل شىء وأنه لهو المقتدر على ما يشاء وهو أشد المنتقمين ) نفس المصدر السابق ص 228 
ويتفضل حضرة عبد البهاء: 
كونوا لجروح الجائرين مرهما ولألم الظالمين علاجا فأن سقوكم سما إشربوهم شهدا ، وأن طعنوكم بخنجر أعطوهم سكرا وحليبا ، وإن أهانوكم كونا لهم عونا . وأن لعنوكم إلتمسوا لهم رحمة وقوموا بالمحبة وعاملوهم بأخلاق رحمانية ، ولا تدنسوا ألسنتكم قط بكلمة بذيئة في حقهم ) 
( فإذا عاملكم سائر الملل والطوائف بالجفاءفعاملوهم بالوفاء، أو الظلم فبالعدل ،وإن إجتنبوكم فاجتذبوهم ، وأن أظهروا لكم العداوة قابلوهم بالمحبة ، وأن أعطوكم سما فامنحوهم الشهد ، وإذا جرحوكم فكونوا مرهما هذه صفة المخلصين وسمة الصادقين

Friday, March 16, 2012

ثقافة التسامح واللاعنف على أسس المواطنة والتعايش السلمي وقبول الآخر



لا شك أن العراق بلد ذو تنوع عرقي وديني وثقافي، وهذا التنوع يفرض علينا، نحن العراقيين، أن نفهم الفسيفساء العراقي بشكل يتطلب تقبل الرأي الآخر على أسس المواطنة والتعايش السلمي وقبول الآخر، وضرورة الإتفاق على ما نتفاهم عليه، والحوار على ما لا نتفاهم عليه بعيدا عن العنف. ومن هنا تتطلب الوطنية أن نحتكم إلى العقل والإيمان. وقد أشار السيد محمد عبده أن ‘‘العقل قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة‘‘. فـ ‘‘الحقيقة هي تلك التي تعمل‘‘، كما قال المفكر جون ديوي. إن عدم العنف هو التحرر من الخوف، ذلك أن العنف ليس سوى الوسيلة للصراع ضد سبب الخوف كما قال غاندي. وسبب الخوف هو الخوف من الآخر، وفقدان الثقة بين أبناء البلد الواحد. ومن هنا يجب التفكير بالعدالة في كل ناحية من نواحي الحياة لتحقيق المصلحة الوطنية العليا. 

هنا أود أن أؤكد على الأطراف الوطنية، وليست الإرهابية أو تلك التي ساهمت في المجازر الجماعية والقتل العام، لأنه لا يمكن تحقيق المصلحة الوطنية على أسس طائفية أو حزبية أو إرهابية ترفض الآخر، وتمارس العنف تحت حجج علمانية أو دينية. فمن غير المعقول أن تلتقي ثقافة العنف بثقافة السلام. ومن الحمق أن نقول أن ثقافة رفض طرف وطني معين طرفا وطنيا أخر أو إلغائه يهيأ الأجواء للتسامح والمصالحة. 
ينبغي أن نفهم أنه ليس من معيار الوطنية حرمان أقلية قومية أو دينية أو سياسية من حقوقها تحت طائلة المصالحة الوطنية والثقافية . ولا يمكن تحقيق هذه المصالحة، إذا حَرمت السلطة الحاكمة القوى الضعيفة والمهمشة من حقوقها المشروعة، أو رفضت الأغلبية حقوق الأقلية بأسم الوطنية.

لازال البعض من العراقيين يفكر تفكير القرن السابع الميلادي في التعبير عن رؤياه في الحياة، وبالحقد الدفين على هذه الطائفة أو تلك، وهذا المذهب أو ذاك، وإطلاق فتاوى باطلة بتكفير الآخر وجواز قتله، حاملا في رأسه الكراهية والعداوة. 
وكل طائفة تمنح الحق والصواب والإيمان لنفسها وتحرمها على غيرها، فتشرزَمَ المجتمع العراقي وتفَرق في جذوره وفروعه، وعمت الفوضى الجميع، وعميت الأعين، وأبت شمس الحرية والاستقلال أن تشرق على أرض تُدفن فيها أبرياء قُتلوا على مذابح العقلية الطائفية والإرهابية المتخلفة من كل الجوانب. 

للتاريخ عبر ودروس ينبغي الاستفادة منها. قصفت الطائرات الأميركية هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية إبان الحرب العالمية الثانية، وقتلت مئات الآلاف من اليابانيين الأبرياء، وتصالحت اليابان مع أمريكا لاحقا، والتعاون الاقتصادي والسياسي والأمني ووو ساري المفعول بينهما، وهما يحكمان العالم اقتصاديا إن صح التعبير، مع أن الجراح لا تندمل. إنه العقل الذي يحكم، لا الجهل والجذب بقوة مغناطيسية نحو الماضي ونسيان الحاضر وإهمال المستقبل. 

الكل مسؤول أمام نفسه وأمام ضميره وأمام شعبه ووطنه. والكل ملزم بقبول الوطني الآخر للعيش بسلام ووئام، حيث يشعر كل فرد بمواطنته وحقوقه وواجباته. 
إنَّ حق المعرفة واحترام العقيدة وحرية الإنسان فوق الحقوق، لأنه من غير الممكن تحقيق الحقوق بدون معرفة وإيمان. وهنا تأتي أهمية التأكيد على التربية والمعرفة.
هنا تطرح جملة من القضايا الأساسية نفسها لتصب في صالح المجتمع ككل:
- المسؤولية الوطنية مسؤولية فردية واجتماعية.
- بناء مجتمع مدني سلمي يكون المواطن فيه جوهر عملية المصالحة.
- الحفاظ على حقوق المواطن على أساس المواطنة وصيانة هذه الحقوق مقابل الواجبات طبقا للدستور الذي وافق عليه الشعب، وليس مرجعا دكتاتوريا معينا. 
- التسامح والعمل على تحقيق مصالحة سياسية وثقافية.
- الفكر الديمقراطي وضرورة الممارسة الديمقراطية بعيدا عن الاحتكار المذهبي والطائفي ونظام الحزب الواحد.
- مساهمة المواطن في صنع القرار.
- مساهمة المواطن في عملية التغيير نحو ساحات أوسع من الحرية.
- الالتزام بالدستور من قبل القابضين على السلطة، لتشجيع المحكومين بالالتزام به أيضا.
- احترام بنود الدستور في الممارسة العملية من قبل القوى والمنظمات المشاركة في صنع القرار.
- تنفيذ بنود الدستور التي تتطلب تنفيذها طبقا لما ورد فيها.
- الاعتراف بالحقوق المشروعة للأقليات القومية والدينية في إطار الدستور ووحدة الدولة.
- مساواة الجميع أمام القانون بغض النظر عن العرق والجنس والدين .
- التعاون الجاد لتصفية الإرهاب، باعتبار أن هذه المهمة مسؤولية وطنية مشتركة. 
- التعاون الجاد برفض التدخل الأجنبي، ولا سيما من قبل دول الجوار.
- رفض الاحتلال بكل أشكاله.
- محاربة الفساد المالي والإداري، وإتخاذ الاجراءات القانونية بإعادة ملكية الشعب إلى الشعب.
- ضرورة إعادة االثقة لدى المواطنين بالحكام وبالدولة.
- التأكيد على حكم القانون حكاما ومحكومين، والمساواة أمام القانون بدون تمييز.
- التأكيد على هيبة الدولة وحكم الدولة، مع التأكيد على لامركزية الحكم في الفروع على أساس وحدة الدولة.
- احترام الدستور الذي استفتى عليه الشعب، على أساس أن جمهمرية العراق دولة إتحادية (فيدرالية) ديمقراطية.
- العمل على تغيير ثقافة العنف إلى ثقافة التسامح والاعتذار عن الخطأ.
- التعاون والتفاهم والتسامح من أجل االمصالحة الوطنية وممارسة ثقافة التسامح والترابط والتكامل.
- بناء المجتمع مسؤولية الجميع .

لايمكن تحقيق مجتمع مدني بدون تحقيق السلام والاستقرار. ولا يمكن التفاهم بدون شعور كل مواطن عراقي بحقه في الحياة، وحقه في ممارسة حقوقه الإنسانية والتعبير عن إ رادته بحرية في إطار القانون.