Friday, April 13, 2012

الحريات الدينيه بعد ثورة يناير



عام 1761 في مدينة تولوز بفرنسا قام أب متهور بقتل ابنه لأنه أراد أن يتحول من البروتستانتية و هي عقيدته الأصلية إلى الكاثوليكية فيما يسمى بحادثه " كالاس Calas " و قد اهتم " فولتير" كثيرا بهذه القضية مبينا ضرورة التسامح الديني و الحريات الدينية قبل ان تزدهر هذه القيم و تنتشر في فرنسا و تدعهما قوانين ما بعد الثورة لتي حفظت الحريات الدينية للمواطنين و وضعت العقل على رأس المبادئ الأساسية لبناء الدولة الفرنسية ألحديثه.
و لا يمكننا أن ننكر أبدا أننا بالرغم من مرور نحو قرنين و نصف على حادثه كالاس فإننا مازلنا نفتقد و بشده قيم التسامح الديني في مصر التي اختفت تدريجيا منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن و رغم الكثير من المحاولات لوضع و ترسيخ مفهوم التسامح الديني إلا أنها تاهت وسط موجات من التعصب الديني التي تأتى من خارج مصر محمله في عقول المصريين العائدين من دول تحتضن هذه الأفكار التعصبية و أصبح من الصعب جدا على المفكرين مقاومة هذه السيطرة الدينية الجارفة.
و لهذا أيضا ارتباطه بالسياسة و النظام السابق الذي كان يقمع المفكرين و المثقفين الغير متفقين مع سياساته مما ترك الساحة خاليه أمام التيارات الدينية السلفية Salafists و التي لا تتدخل في الشئون السياسية - و لديها مبرراتها الدينية التي تبعدها تماما عن شئون السياسة – و قد ساعدت هذه التيارات الدينية في تغييب المواطن المصري عن الواقع الذي يعيشه و أعطت الحاكم شرعيه للقمع و التسلط و كان لصعود هذه التيارات السلفية أثره في تضييق الحريات الدينية في مصر لما تحويه هذه التيارات من أفكار تدفع إلى التضييق على الأخر و الانغلاق و التشدد.
و مما لاشك فيه أن يحدث صدام بين الأفكار التي تحملها هذه التيارات و بين الأفكار التنويرية التي تعقب الثورات عادةً, و لقد كان شعور فلاسفة النهضة الفرنسيين بالعداوة تجاه الدين و الكنيسة هو نتيجة طبيعيه لسيطرة الكنيسة على المجتمع و ما يدور في فلك أفكاره بل و تواطئها في هذا الوقت مع نظام استبدادي سلطوي
ولتفادى هذا الصراع في مصر الذي سيكون محتدما إذا حدث يجب علينا أن ننتقل تدريجيا بالدين داخل العقل المصري من موقعه الحالي إلى مكانته الطبيعية, و تصعيد العقل و العقلانية لتصبح هي مصدر الأفكار و أساس المعاملات و القوانين المنظمة لها و قد كتب ديدرو في مقاله عن العقل ( أننا أناس قبل أن نكون مسيحيين ) و على المصريين أن يدركوا أنهم أيضا أناس قبل أن يكونوا مسيحيين و مسلمين و بمعنى أخر فان "الاعتقاد الديني هو مسألة فرديه" 
الإيمان بهذا المفهوم - أن الاعتقاد الديني هو مسألة فرديه - هو أول الخطوات التي ستضعنا مباشراً أمام دوله مدنيه انطلاقا من حرية الكل في الاعتقاد طالما أنها مازلت مسألة فرديه و لا تتعرض للعلاقات أو التعاملات و لهذا أيضا ارتباطه بالحريات الاجتماعية لما للدين من تأثير على علاقات البشر بعضهم و بعض و تحديد سقف للحريات الاجتماعية لذلك فان ما أن يفهم الدين و الاعتقاد الديني على انه "مسألة فرديه" هنا فقط يستطيع القانون أن يحل محل الدين ليحدد هو سقف الحريات و طبيعة السلوك و المعاملات بين المواطنين و من ثم ينظم القانون هذا المفهوم عن طريق تشريعات أولا تحفظ الحرية الدينية لصاحبها و تحميها و ثانيا تنظم الحريات الاجتماعية انطلاقا من مفهوم أخر لهذه الحريات غير مبنى على الدين.
طه حسين, احد رواد النهضة المصرية في أوائل القرن العشرين كتب احد أكثر الكتب إثارة للجدل في مصر عام 1926 (في الشعر الجاهلي) و اتفق معه البعض كما اختلف معه البعض الآخر, رغم أن الكتاب يحمل وجهة نظر دينيه تخالف كل السائد في هذا الوقت, إلا انه وجد مناصرين و منتقدين و احتدم النقاش على صفحات الكتب وقتها و في جلساته الفكرية حول هذا الكتاب, و إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن المصريين لديهم قبول واسع للأخر و ليسوا عشاقاً للقمع الذي تركه في نفوسهم النظام السابق.
فالمصريين ليسوا متعصبين دينيا بطبيعتهم و قد شهدت مصر سنوات من الحرية الدينية و كانت على مدار قرون تحتضن كل الأشكال العقائدية, و لتعدد الالهه عند القدماء المصريين مدلوله لمدى تقبل المصريين لفكرة الاختلاف الديني و لكنه و للقمع الغير مسبوق الذي 
مورس على المصريين في الفترة ألأخيرة و على المتدينين منهم ممن لديهم آراء تزعج النظام السابق كان المصريين يقومون بما يشبه الهجرة في التاريخ داخل العقل لما هو أفضل من وجهة نظرهم و لما يعطى لهم من بريق للهويه المفقودة في الواقع الذي يعيشونه و لما يعطى لهم أيضا من كرامه سلبت منهم في عهد النظام السابق و ربما أيضا لأن الحلم بالحياة الأخرى و التي هي بالتأكيد الجنة هو أفضل من معايشة واقع اليم فرضه القدر عليهم
إذن هم هربوا من الواقع إلى حاله من التدين و قد ساعد على هذا صعود التيارات الدينية الأصولية و أفكارها القادمة من الجزيرة العربية لما تشكله من محفز لهذا التدين و وقود له و هذه الأفكار صاحبتها أفكار تعصبيه ضد الأخر مما خلق نوع من الأنانية و التعنت الديني, و للخروج من هذه المعضلة لابد لنا أولا أن نعيد للعقل مكانته لدى المصريين فالعقل هو الدافع الحقيقي وراء التسامح الديني و ليس الدين و لا يمكن أبدا السيطرة على الأخر باسم الدين لأنه سيؤدى بالضرورة للانتقاص من حريته.
بالرغم من سطوة رجال الدين أحيانا و قمعهم للأفكار إلا أن الأفكار لا تقمع و لا تموت أبدا و لقد كان الحرق العلني لكتاب ( رسائل فلسفيه ) لفولتير عام 1734 بحجه انه مخرب و انتهك حرمة المقدسات كان سببا في نجاح الكتاب بشكل قوى و دفع فولتير إلى كتابة المزيد من الكتب المشابهة و كذلك كتاب ( عن الروح ) لهلفتيوس و الذي احرق علانية من قبل الكلية اللاهوتية فزادت شعبية الكتاب بشده و ترجم إلى كل اللغات الأوروبية.
و هناك الكثير من الكتاب و المفكرين المصريين الذين دعوا إلى الحرية الدينية و تبنوا ما يطلق عليه "الإسلام الليبرالي" أمثال "محمد عبدو" و "طه حسين" و "فرج فوده" و لقد هوجمو فيما بعد لأفكارهم الليبرالية و قتل احدهم لنفس السبب ( فرج فوده ) و لكن الأفكار تعيش للأبد و لا تموت و لا تسقط إلا بأفكار مضادة لها.
لا مفر من تكريس هذه المفاهيم في نفوس المصريين باستخدام كل وسائل التعبئة الممكنة, و لن يستغرق هذا كثيرا فأعتقد أن المصريين في غالبيتهم يتبنون الحد الأدنى من الحريات الدينية ربما ينقصهم اكتمالها فقط و هناك من سمات المصريين الموروثة ما يعزز هذه الحريات, فالمصريين يهوون العلاقات الاجتماعية و تربطهم أواصل أكثر بكثير من أن تكون دينيه, و قبولهم لبعضهم البعض هو الأقرب من اختلافهم, يبقى لنا فقط العمل على توعيتهم بهذه القيم أكثر و سن القوانين التي ستحافظ عليها. 

Friday, April 6, 2012

مزايا العفو والتسامح كقيمة سلوكية



لنكن متسامحين حفاظا على صحتنا الجسمانية والعقلية وعلى علاقاتنا الاجتماعية
الكراهية والحقد كعائق للشعور بالسعادة 
قد لا نضيف جديدا بتأكيدنا أن العيش على إيقاع الحقد والكراهية يعمل على تسميم الحياة اليومية ويبعث على الكآبة والحزن وبالتالي يشل كل إمكانية للشعور بالسعادة والمرح مهما توفرت الشروط لذلك 
ومن زاوية فزيولوجية فإنه يؤدي إلى ارتفاع الضغط وإحداث الكثير من الاختلالات في الوظائف الجسدية كعسر الهضم ، والشعور بالإنهاك والتعب وانسداد شهية الأكل وما ينجم عن ذلك من انحسار مستوى الإقبال على الحياة 
من منا لم يخبر هذا الشعور إثر نزاع أو تصادم مع شخص ما سواء في حياته الخاصة أو المهنية أو الاجتماعية بمختلف مجالاتها 
هذا إذا لم نقل بأن سقف التوترات غالبا ما يعيق اوكسجين الحياة الطبيعية عبر الكثير من
تفاعلاتنا 
التوتر كإفراز طبيعي لبنياتنا السسوثقافية 
ولعل واقعنا العربي مليء للأسف بأسباب التوتر لدرجة الاختناق .......حيث تهدر طاقاتنا الخلاقة للأسف في تدبير انعكاساته النفسية وحتى الاجتماعية الناتجة عن شروطنا المعيشية في مختلف مستوياتها ....هذا إن كانت هناك محاولات بالفعل للتدبير .....
ذلك أن تنشئتنا الاجتماعية في ظل هيمنة قيم ذات طابع إطلاقي بل تسلطي في الكثير من الأحيان قلما تؤهلنا للتعايش مع الآخر بشكل يضمن احترام خصوصياته واختيارته 
علما أن التسلط الاجتماعي هو أحد أشكال التسلط السياسي وربما الأكثر إيلاما وقدرة على تحجيم الناس وتكبيل انطلاقهم وتحويلهم إلى كراكيز مسلوبة الإرادة رغما عنهم
ولعل فشلنا في تحقيق أنظمة ديموقراطية حقيقية يجد أحد أسبابه الأكثر عمقا في أنظمتنا السسيوثقافية التي لا تعترف بحق الفرد وحاجياته النفسية خارج ترسانة التحريم والتجريم والتقزيم 
ذلك أن بنياتنا ذات الطابع المشوه غالبا ما تلقي برزحها على نفسياتنا وتحكم على أغلبيتنا الصامتة بالعيش في نوع من البؤس النفسي الذي تتفاوت درجاته حسب قدراتنا الشخصية في تدبير هذه التناقضات أو التناور عليها لاقتلاع نصيب ما من السعادة والإقبال على الحياة في ظل هذه الفوضى المنظمة في أغلب فضاءاتنا 
من هنا يمكن أن نفهم ذلك الحجم الهائل من الصراعات والنزاعات والتصادمات التي تخترق مختلف فضاءاتنا،بما فيها تلك التي تلتحف بأردية ذات طابع حداثي كالأحزاب والجمعيات المدنية والإدارة ....و...و
ولا بد من التنبيه إلى أن الرهانات الفكرية أو الاجتماعية أو حتى الذاتية غالبا ما تخفي وراءها ضرائب ذات طابع نفسي قلما يتم الاهتمام بها وسط زخم تنافساتنا المحمومة التي لا تخلو بالتأكيد من توترات تتفاوت في درجتها وأهميتها وانعكاساتها 
في هذا السياق يمكن أن ندرج أهمية القدرة على التسامح كقيمة أخلاقية وفعل سلوكي له بالتأكيد فوائد اجتماعية ونفسية وعقلية غنية عن البرهان . بل كإحدى أدوات تدبير الخلافات والنزاعات الملازمة لمختلف تفاعلاتنا ....
لكن هل نستطيع جميعنا استبطان هذه القيمة الأخلاقية الكبرى وتحويلها إلى سلوك يسهم في سلاسة علاقاتنا الاجتماعية ؟
لا شك أن ذلك يتطلب مجهودا كبيرا من طرف كل واحد منا ، ولعل أول مجهود يبدأ بالاقتناع بأهمية هذه القيمة الأخلاقية وتحويلها إلى سلوك عملي يحضر باستمرار وتواتر في مختلف تفاعلاتنا 
ولتسهيل هذه المهمة أورد فيما يلي المراحل التي يجب التمرن عليها حسب الأخصائي النفسي Nicolas Sanders –- بنوع من التصرف 
المرحلة 1 : أن نقبل بمراجعة الوضع حيث نبدأ باتخاذ مسافة تمكننا من رؤية الأمور بموضوعية أكثر....لاشك أن هذه المسافة ستجعلنا نحلل الأمور بطريقة مختلفة عن تلك التي باشرنا بها الأمور و نحن مقتنعون بأننا مجرد ضحايا للآخر الذي نعتقد جازمين في اعتدائه علينا بشكل من الأشكال 
المرحلة 2 : الاستعداد لإقرار العفو والتهييء النفسي لاتخاذ هكذا موقف 
المرحلة 3 : نحاول استشعار نوع من التعاطف مع المذنب أو المعتدي أو من أخطأ في حقنا ونغير موقعنا من موقف الضحية إلى موقع المتفرج أو الفاعل . لاشك أن هذه المرحلة تجسد نقلة نوعية في عملية التغيير المراد إنجازه 
فمن الضروري محاولة تفهم سلوك الآخر من خلال تحليل مختلف حيثياته وقد يفضي بنا ذلك إلى الشعور بنوع من التعاطف 
عندما نتوصل لتحقيق ذلك ننتقل للمرحلة التالية
المرحلة 4 : التخلص النهائي من مشاعر العداء أو الكراهية التي تجعلنا نتألم كلما تذكرنا الواقعة , وهي مرحلة تشبه عملية التقيؤ حيث تتخلص المعدة من المواد غير المرغوبة فكذلك على المستوى النفسي يمكن أن نقوم بنفس الشيء لتطهير المشاعر وتحويلها نحو ما هو إيجابي ولا بد من التذكير بأن العفو أو السماح ليس هو النسيان . ولا يمحي الواقعة بشكل نهائي .مالا نستطيع تجاوزه يتحدد حسب الوعي الخاص لكل منا للحادث أو الواقعة ،مع ذلك فإن القدرة على السماح لها فوائد جسمانية وعقلية ، وبالتالي ففعل السماح ينبيء عن نبل السلوك والشخصية ويؤهلنا لعلاقات اجتماعية أكثر سلاسة ونجاحا 

Friday, March 30, 2012

التسامح...القيمة المنسية في قراءة - عزازيل-



وسط الضجة التي أثارتها رواية" عزازيل" والنقاش الذي يجعلها تبدو وكأنها موجهة للنيل من الديانة المسيحية، والتساؤل عما كان يمكن أن يواجهه الدكتور الروائي يوسف زيدان لو أنه تناول التاريخ الإسلامي بالطريقة ذاتها وبالعمق ذاته من النقد، تغيب أهمية الجانب الإنساني فيها ليشغلناـ كما هو الحال دائماـ الجانب الذي يحرك غرائزنا ويصلح وقودا لمعاركنا، فننسى كل ما فيها من الجماليات والإيجابيات التي ليس أقلها ضرورة قبول الآخر والحض على زارعة بذور التسامح.
ما يناقشه الروائي يوسف زيدان في رواية" عزازيل" هو قصة تطور الأديان والعقائد المقدسة، من دون استثناء تقريبا، من ناحيتين: الأولى هي أن كل دين، من وجهة نظر المتشددين المؤمنين به، يقوم على فكرة أنه الصح الوحيد وأنه دين الحقيقة المطلقة، وغيره باطل مطلق. والثانية أن العنف والإقصاء كانا دائما الوسيلة الأكثر استعمالا لإزاحة الخصوم داخل العقيدة ذاتها بحجة المحافظة على نقائها، وقتل المخالفين من العقائد الأخرى لأن الرب الذي آمن به صاحب هذه العقيدة الجديدة لم يعد يتقبل هؤلاء المخالفين له، وكأن الرب ولد مع ولادة إيمانه الجديد المتعصب. 
لعل أهمية الراهب هيبا القادم من أعماق الصعيد المصري تكمن في تساؤله عن هذه النقطة من دون أن يسلم بها وهو في رحلته الطويلة على مسرح الجغرافية المسيحية الممتد على أكثر من قارة في القرن الخامس الميلادي متجها إلى كهوف البحر الميت لمواجهة خريطون أكبر الرهبان المعروفين آنذاك، بعد الإقامة في الإسكندرية لبعض الوقت، ليسأله عن حقيقة الإيمان. يقول هيبا" وأفضيت إليه بفزعي من أنهار العنف التي تتدفق في أرض الله ورعبي من القتل المروع الذي يجري باسم المسيح وصرحت له باحتياجي إلى اليقين وافتقاري إليه".
ربما كانت طفولة هيبا وراء عدم تسليمه النهائي وأنه منذ اللحظات الأولى لإيمانه لم يشعر أنه بلغ النهاية وامتلك الحقيقة المطلقة. فقد رأى مقتل والده الوثني على أيدي إخوانه، المسيحيين لاحقا، بطريقة ساهمت في تشكيل اللاوعي المتسائل دوما عن الحقيقة الإيمانية. رآه يُقتل بأبشع طريقة باسم الإله الذي لم تتوقف أنهار الدماء عن التدفق باسمه. وما أن أدار ظهره على موت أبيه حتى فُجع بالتشدد يقتل أكثر من أمومة وأبوة ممثلتين ب"هيباتيا" الوثنية و"أستاذة الزمان" وعالمة الرياضيات والفلسفة ثم حبيبته أوكتافيا، ولتنتهي حياته بشكل ما بمقتل أبيه الروحي الأسقف نسطور، ولكن ليس موتا جسديا، وإنما روحيا هذه المرة.
عبر التاريخ كان المتشددون والمتعصبون يرفضون دائما أن يدركوا أن حقهم هو باطل غيرهم، وباطلهم حق غيرهم، وأن ما هو صحيح يقتلون الناس من أجله الآن قد يتبين أنه خطأ بعد زمن ما. لقد أدرك الراهب والطبيب هيبا وهو يسلك طريق الضعفاء المساكين، ويقدم رواية الذين لم يكن لهم نصيب في اعتلاء عروش السلطة الدينية أو الزمانية، بعد القضاء على خصومهم، أن" كل المهرطقين هنا كانوا مبجلين هناك وكل الآباء مطعون عليهم عند غير أتباعهم"، كما يقول هيبا. والواقع أن تلك هي سيرة كل العقائد التي تعتقد أنها الوحيدة التي تمتلك الحقيقة والتي لا يتسع الصراط المستقيم إلا لها وحدها. هذه واحدة من الحقائق الإيمانية القائمة على التسليم المطلق والتي قلما يخضعها المؤمن بها إلى تساؤل العقل الذي ربما كان سيقول له: لو كان هذا صحيحا لما بقي على وجه الأرض سوى ديانة واحدة. ولو لا أن كل شخص يؤمن أن عقيدته صحيحة لما استمر وجود الأديان والمذاهب بهذه الأعداد الكبيرة عبر التاريخ. كان يكفي وجود ديانة واحدة فقط. على ضوء هذه الفكرة يمكن فهم ما يقوله الراهب هيبا" طافت بذهني الآيات التوراتية المشهورة التي لا يمكن أن يصدقها غيرنا؟" أليس في كل العقائد والديانات ما يشبه ذلك، لو تركنا العقل يطرح أسئلته بحرية، بعيدا عن التسليم المطلق؟ 
من حق كل مؤمن أن يرى أن عقيدته صحيحة، وأن يتمتع بحرية الاعتقاد بها من دون أن يسفه أو يسيء لعقائد غيره. ولعل هيبا يجسد روح الراهب المطلوب في كل الديانات وكل الأزمان، وتحديدا في هذا العصر الذي تزداد فيه قيمة التسامح وأهميته مع تزايد أنهار الدم في كل مكان، وأن نعيشه سلوكا يجعل الأرض تتسع لنا جميعا. ولذلك كان مستعدا للبحث الدائم عن الحقيقة أكثر من بحثه عن الكفار الذين يجب أن يقضي عليهم وعلى عقائدهم. وكان جاهزا باستمرار لمعالجة من يأتيه من المرضى من دون أن يسأله عن عقيدته أو يتقاضى منه أجرا. وبهذه الروح استطاع أن يصغي إلى أوكتافيا الوثنية وهي تتحدث عن إلهها الوثني فتقول" إلهنا سيرابيس هو إله كل العالم. ولا بد أن نظهر احترامنا له رغم أنف كل المسيحيين بمن فيهم الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني نفسه".
رواية "عزازيل"، التي تنبش صراعات الكنيسة المسيحية في مراحل تكونها الأولى كمؤسسة كونية ترعى كل شؤون المؤمنين، هي قصة الصراعات التي تكونت نتيجتها كل الأديان، وحدث خلالها معارك دامية وعمليات تصفية لكل مخالف إما بالقتل الجسدي أو الفكري. ومن هنا يمكن قراءة الرواية على أنها عرض حي لمسيرة التعصب والتشدد لتظهر أهمية التسامح كقيمة سامية أخطأ الإنسان في كل لحظة تجاهلها، وأهمية المحبة كدرب يضيء الدرب ويجدد الأمل الذي يعطي الحياة معناها الأكثر جمالا.
وأخيرا ربما يحق للقارئ أن يتساءل عن بذور الأعشاب الطبية التي زرعها الراهب الطبيب على حافة التل الذي يحمل الدير قبل اللحظات الأخيرة من انهيار حلمه بعزل الأسقف نسطور ونفيه، ثم غياب مارتا المفاجئ. هل نمت تلك البذور وأعطت ثمارها؟ من المنطقي أن نستنتج أنها ماتت بدليل استمرار العنف والتعصب وتدفق أنهار الدماء باسم المقدس، بغض النظر عن اسمه منذ القدم وحتى الآن.
منشورة في صحيفة "أوان" الكويتية

Friday, March 23, 2012

غرس فضيلة التسامح


فضيلة التسامح من أكثر الفضائل التي يجب أن نزرعها في أبناءنا لنجنبهم مخاطر التعصب والكره والبغض والإعتداء على الآخرين وخاصة هذه الأيام التي نحتاج فيها لهذه الفضيلة بكل قوة حتى يعود الأمن والأمان والمحبة بين أفراد الشعب الواحد ونترك محاسبة المقصرين والمفسدين لهيئة العدالة الجتماعية بالدولة.
يتفضل حضرة بهاء الله : 
(من إعتاظ عليكم قابلوه بالرفق والذي زجركم لا تزجروه دعوه بنفسه وتوكلوا على الله المنتقم الجبار )كتاب الأقدس
(لا تعترضوا على العباد إن وجدتم من أحد رائحة البغضاء ذروه في خوضه متشبثين بأذيال رداء عناية ربكم فالق الأصباح ، لا تعتدوا على من إعتدى عليكم ليظهر فضلكم وعنايتكم بين العباد كذلك نزل من قبل من مشيئة ربنا المنزل القديم ) كتاب أمر وخلق الجزء الثالث الصحفة 226 
(تالله الحق لو أنتم تظلمون أحب عندي من أن تظلموا على أحد وهذا من سجيتي وأحسن خصالى لو أنتم من الموقنين ، أن أصبروا ياأحبائي في البأساء والضراء وأن يظلمكم من ظالم فأرجعوا حكمه إلى الله الذى بيده ملكوت كل شىء وأنه لهو المقتدر على ما يشاء وهو أشد المنتقمين ) نفس المصدر السابق ص 228 
ويتفضل حضرة عبد البهاء: 
كونوا لجروح الجائرين مرهما ولألم الظالمين علاجا فأن سقوكم سما إشربوهم شهدا ، وأن طعنوكم بخنجر أعطوهم سكرا وحليبا ، وإن أهانوكم كونا لهم عونا . وأن لعنوكم إلتمسوا لهم رحمة وقوموا بالمحبة وعاملوهم بأخلاق رحمانية ، ولا تدنسوا ألسنتكم قط بكلمة بذيئة في حقهم ) 
( فإذا عاملكم سائر الملل والطوائف بالجفاءفعاملوهم بالوفاء، أو الظلم فبالعدل ،وإن إجتنبوكم فاجتذبوهم ، وأن أظهروا لكم العداوة قابلوهم بالمحبة ، وأن أعطوكم سما فامنحوهم الشهد ، وإذا جرحوكم فكونوا مرهما هذه صفة المخلصين وسمة الصادقين

Friday, March 16, 2012

ثقافة التسامح واللاعنف على أسس المواطنة والتعايش السلمي وقبول الآخر



لا شك أن العراق بلد ذو تنوع عرقي وديني وثقافي، وهذا التنوع يفرض علينا، نحن العراقيين، أن نفهم الفسيفساء العراقي بشكل يتطلب تقبل الرأي الآخر على أسس المواطنة والتعايش السلمي وقبول الآخر، وضرورة الإتفاق على ما نتفاهم عليه، والحوار على ما لا نتفاهم عليه بعيدا عن العنف. ومن هنا تتطلب الوطنية أن نحتكم إلى العقل والإيمان. وقد أشار السيد محمد عبده أن ‘‘العقل قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة‘‘. فـ ‘‘الحقيقة هي تلك التي تعمل‘‘، كما قال المفكر جون ديوي. إن عدم العنف هو التحرر من الخوف، ذلك أن العنف ليس سوى الوسيلة للصراع ضد سبب الخوف كما قال غاندي. وسبب الخوف هو الخوف من الآخر، وفقدان الثقة بين أبناء البلد الواحد. ومن هنا يجب التفكير بالعدالة في كل ناحية من نواحي الحياة لتحقيق المصلحة الوطنية العليا. 

هنا أود أن أؤكد على الأطراف الوطنية، وليست الإرهابية أو تلك التي ساهمت في المجازر الجماعية والقتل العام، لأنه لا يمكن تحقيق المصلحة الوطنية على أسس طائفية أو حزبية أو إرهابية ترفض الآخر، وتمارس العنف تحت حجج علمانية أو دينية. فمن غير المعقول أن تلتقي ثقافة العنف بثقافة السلام. ومن الحمق أن نقول أن ثقافة رفض طرف وطني معين طرفا وطنيا أخر أو إلغائه يهيأ الأجواء للتسامح والمصالحة. 
ينبغي أن نفهم أنه ليس من معيار الوطنية حرمان أقلية قومية أو دينية أو سياسية من حقوقها تحت طائلة المصالحة الوطنية والثقافية . ولا يمكن تحقيق هذه المصالحة، إذا حَرمت السلطة الحاكمة القوى الضعيفة والمهمشة من حقوقها المشروعة، أو رفضت الأغلبية حقوق الأقلية بأسم الوطنية.

لازال البعض من العراقيين يفكر تفكير القرن السابع الميلادي في التعبير عن رؤياه في الحياة، وبالحقد الدفين على هذه الطائفة أو تلك، وهذا المذهب أو ذاك، وإطلاق فتاوى باطلة بتكفير الآخر وجواز قتله، حاملا في رأسه الكراهية والعداوة. 
وكل طائفة تمنح الحق والصواب والإيمان لنفسها وتحرمها على غيرها، فتشرزَمَ المجتمع العراقي وتفَرق في جذوره وفروعه، وعمت الفوضى الجميع، وعميت الأعين، وأبت شمس الحرية والاستقلال أن تشرق على أرض تُدفن فيها أبرياء قُتلوا على مذابح العقلية الطائفية والإرهابية المتخلفة من كل الجوانب. 

للتاريخ عبر ودروس ينبغي الاستفادة منها. قصفت الطائرات الأميركية هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية إبان الحرب العالمية الثانية، وقتلت مئات الآلاف من اليابانيين الأبرياء، وتصالحت اليابان مع أمريكا لاحقا، والتعاون الاقتصادي والسياسي والأمني ووو ساري المفعول بينهما، وهما يحكمان العالم اقتصاديا إن صح التعبير، مع أن الجراح لا تندمل. إنه العقل الذي يحكم، لا الجهل والجذب بقوة مغناطيسية نحو الماضي ونسيان الحاضر وإهمال المستقبل. 

الكل مسؤول أمام نفسه وأمام ضميره وأمام شعبه ووطنه. والكل ملزم بقبول الوطني الآخر للعيش بسلام ووئام، حيث يشعر كل فرد بمواطنته وحقوقه وواجباته. 
إنَّ حق المعرفة واحترام العقيدة وحرية الإنسان فوق الحقوق، لأنه من غير الممكن تحقيق الحقوق بدون معرفة وإيمان. وهنا تأتي أهمية التأكيد على التربية والمعرفة.
هنا تطرح جملة من القضايا الأساسية نفسها لتصب في صالح المجتمع ككل:
- المسؤولية الوطنية مسؤولية فردية واجتماعية.
- بناء مجتمع مدني سلمي يكون المواطن فيه جوهر عملية المصالحة.
- الحفاظ على حقوق المواطن على أساس المواطنة وصيانة هذه الحقوق مقابل الواجبات طبقا للدستور الذي وافق عليه الشعب، وليس مرجعا دكتاتوريا معينا. 
- التسامح والعمل على تحقيق مصالحة سياسية وثقافية.
- الفكر الديمقراطي وضرورة الممارسة الديمقراطية بعيدا عن الاحتكار المذهبي والطائفي ونظام الحزب الواحد.
- مساهمة المواطن في صنع القرار.
- مساهمة المواطن في عملية التغيير نحو ساحات أوسع من الحرية.
- الالتزام بالدستور من قبل القابضين على السلطة، لتشجيع المحكومين بالالتزام به أيضا.
- احترام بنود الدستور في الممارسة العملية من قبل القوى والمنظمات المشاركة في صنع القرار.
- تنفيذ بنود الدستور التي تتطلب تنفيذها طبقا لما ورد فيها.
- الاعتراف بالحقوق المشروعة للأقليات القومية والدينية في إطار الدستور ووحدة الدولة.
- مساواة الجميع أمام القانون بغض النظر عن العرق والجنس والدين .
- التعاون الجاد لتصفية الإرهاب، باعتبار أن هذه المهمة مسؤولية وطنية مشتركة. 
- التعاون الجاد برفض التدخل الأجنبي، ولا سيما من قبل دول الجوار.
- رفض الاحتلال بكل أشكاله.
- محاربة الفساد المالي والإداري، وإتخاذ الاجراءات القانونية بإعادة ملكية الشعب إلى الشعب.
- ضرورة إعادة االثقة لدى المواطنين بالحكام وبالدولة.
- التأكيد على حكم القانون حكاما ومحكومين، والمساواة أمام القانون بدون تمييز.
- التأكيد على هيبة الدولة وحكم الدولة، مع التأكيد على لامركزية الحكم في الفروع على أساس وحدة الدولة.
- احترام الدستور الذي استفتى عليه الشعب، على أساس أن جمهمرية العراق دولة إتحادية (فيدرالية) ديمقراطية.
- العمل على تغيير ثقافة العنف إلى ثقافة التسامح والاعتذار عن الخطأ.
- التعاون والتفاهم والتسامح من أجل االمصالحة الوطنية وممارسة ثقافة التسامح والترابط والتكامل.
- بناء المجتمع مسؤولية الجميع .

لايمكن تحقيق مجتمع مدني بدون تحقيق السلام والاستقرار. ولا يمكن التفاهم بدون شعور كل مواطن عراقي بحقه في الحياة، وحقه في ممارسة حقوقه الإنسانية والتعبير عن إ رادته بحرية في إطار القانون.

Friday, March 9, 2012

سياسة التسامح وثقافة اللاعنف



لا يمكن أن يختلف أي كائن عاقل يعيش على كوكب الأرض إلا ويقر بأنه يوجد هناك في العالم مذهبان هما لا ثالث لهما حيث يقوم المذهب الأول ومرتكزاً في مذهبه على إتباع نهج سياسة العنف وتدمير الآخر وإلغائه ومصادرة حقه في ممارسة حياته الإنسانية أما المذهب الثاني فهو يعتمد في نهجه على احترام الإنسان وصون كرامته والاعتراف بحقوقه الإنسانية في الحياة .وقد ترك هذان المذهبين لنا خلفهم من العواطف المتبادلة التي يعبر كلا منهما الآخر عن مذهبه ،فالمذهب الأول يُسقي بالحقد والمذهب الثاني يُغذي بالحب فشتان ما بين الحب والحقد .فإن الحقد عمليا هو الانكفاء والارتداد على الذات، لهذا فهو مدمر ولا يقبل بقبول بقاء ومشاركة الآخرين لأنه يعمل علي حذفهم والخلاص منهم بأي وسيلة كانت لأنه الضرورات عنده تبيح لهم المحظورات .أما الحب فهو أرقى درجات لإحساس بالحياة وأجمل المشاعر الجياشة وأرق الأحاسيس الصادقة التي لا وصف لها ولا يشعر بشعورها إلا من يحس بإحساسها .أما ثقافة سياسة نهج العنف وما يتخللها من قتل وموت لا تنتج لنا سوى الحقد والكراهية والبغضاء ونشر الرعب والهلع والقلق والرهبة في نفوس الشعوب وتعميم حالة الفوضى والتشاؤم والخوف من المجهول القادم .أما ثقافة اللاعنف هي السمة السائدة والمتحضرة والراقية بين الشعوب في الحياة الطبيعية التي ينتشر فيها الأمن والأمان والوئام والمحبة والسلام بين شعوب سكان هذه الأرض ..ومن منا لا يسمع أو يشاهد بأم عينه الصراعات القائمة بكل أشكالها ما بين الدول فنجد في صراعهم حروب سوى كانت هذه الحروب دائمة أو متقطعة ونهاية كل حرب انتصار وهزيمة .وتأتي هذه الحروب امتدادا للسياسة الدول الطامعة بوسائل وطرق عديدة تعمل على خدمة أهدافهم وتحقيق مآربهم الشخصية والحزبية علي حساب الوطن ومن هنا يبدأ سيناريوهات التبرير لهذه الحروب فيبرر المنتصر دائما لشعبة ويلات الحرب وفظاعتها بالانتصار وما يجلبه ويحققه من مكاسب حتى المنهزم يبرر لشعبه 
أيضاً انه هو المنتصر وفقا لقواعد لعبته السياسة الساذجة المفروضة علية من قوة إقليمية يعمل لحسابها.وأما بشأن الصراعات الاجتماعية فالأمر حتما يختلف فالعنف هنا لا يأتي ابدأ امتدادا ًللسياسة ،بغض النظر من المنتصر جراء ممارسة هذا العنف وان المجتمع في كثير من الأحيان هو الخاسر الأكبر من استخدام نهج ثقافة العنف ..أما ثقافة اللاعنف: تعد رخاءً فكرياً من الأفكار الراقية بل أجزم أن قلت أنها أصبحت حالة ضرورية ومصيرية وهي مقدمة لإنهاء دوامة العنف المستشرية بين أبناء المجتمع والهالكة لهم وأن هذه الثقافة ثقافة اللاعنف بالتأكيد تعمل على فتح أفاقاً وآمالاً 
لهم نحو التطور السلمي ونشر الحياة الديمقراطية وإحياء الأمل في نفوسهم. بدل من إتباع نهج سياسة العنف وان الثقافة اللاعنف حتى نقيمها فوق أنقاض ثقافة العنف لابد من بذل الجهود المضنية من خلال المجتمع بدء من البيت والمدرسة والجامعة والمسجد والشارع إلي   
الأحزاب السياسة والفعاليات الفكرية والأنشطة الجماهيرية وصولا إلي الدولة بجميع مؤسساتها فعندما تنمو وتزدهر ثقافة العنف في نفسية ممارسيها تكبر وتنمو أسوء الدوافع الغريزية والأنانية لديهم تلقائيا وكل ذلك يكون على حساب الرؤية الصحية والفكر السليم لثقافة اللاعنف فثقافة العنف تحمل في مخزونها علامة الانقسام والتناقضات وحتى يتمكن العنف من التفشي والبقاء فهو يعمل باستمرار علي إذلال والحط من كرامة إنسانية الإنسان أين نحن من الحضارة والثقافة ،والروح الدينية الحقيقية والتسامح والمحبة كل هذه القيم النبيلة العظيمة للأسف يجرى تحطيمها على مذبح العنف الذي يستمد من دماء الشهداء وأشلاء الضحايا فغذاء العنف هو الاستمرار والتمدد.فإن ثقافة اللاعنف هي ثقافة السلم الحقيقية التي تعبر عن مضمون وفكر الأخر هو أنا وان الطريق الوحيد لمعالجة العديد من هذه القضايا مثل مشكلات التهميش واللامبالاة والعدالة في المجتمع ، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال معرفتنا بالآخرين واحترامهم ووقف استخدام العنف ووقف الانتهاكات الفاضحة ضدهم.وهناك العديد من أنواع العنف ومنها على سبيل المثال لا حصر لها مثل . العنف الاضطراري . وهذا النوع من العنف والمقصود به هنا من حق الشعوب المناضلة والمغلوب علي أمرها أن تدافع عن حقوقها ومصائرها داخل المجتمع الواحد وبين مكوناته البنيوية الموجودة بالمجتمع وهذا العنف لا يقف عند تيار فكري أو سياسي محدد،فلذي التيارات السياسية كافة في المجتمع القابلية للتحول إلي العنف للاستفادة من أزمات المجتمع واستغلالها أسوء استغلال لمصالحهم الحزبية والشخصية . أما العنف المجتمعي: فهذا النوع من العنف مهما كانت الخلافات والتناقضات الاجتماعية بالمجتمع لا تبرر لأي كائن الحق في ممارسة أشكال العنف لأنه سياسة العنف نتيجة ليس بسيطة لوجودها فثقافة العنف لها مصادرها سواء أتت محمولة عبر نظريات جاهزة كالعنف الثوري ونظريات التكفير أو أتت من خلال مصادر متعددة مثل المذاهب والتعصب القبلي .فإن ثقافة العنف تلعب الدور الحاسم في قلب التناقضات الاجتماعية السِّلمية إلى تناقضات عنيفة، لا تتوقف حتى تدمِّر طاقة المجتمع وتُهلِك الحرث والنسل. وأما عنف الدولة: فلقد وجدت ثقافة عنف الدولة متزامنا مع ولادة النظام السياسي القائم لأي دولة كانت جمهورية أو ملكية أو رئيسية فان الدولة كنظام سياسي موجود ويقوم على توفير الأمن باستخدام العنف كلما اضطرت الدولة إلي ذلك من اجل حماية أمن الوطن والمواطن من داخلها .ونجد داخل أي دولة موجودة تمارس القوة المسلحة لتنفيذ وتطبيق القوانين داخل الدولة وتعمل على حماية وصد أي هجوم عليها من الخارج في أوقات الأزمات والحروب... 

Friday, March 2, 2012

التسامح والتعددية الديموقراطية



التسامح، هو "فضيلة التعددية الديموقراطية"، كما يقول روبرت باول ولف، فبدون تسامح لن يكون هناك اي فرصة لوجود تعددية ديمقراطية. فالتسامح يعني قبولك للآخر و لوجوده، وبالتالي قبولك لعدم امتلاك الحرية المطلقة بل و ايمانك بأن جزء من الحقيقة موجود لدى الآخر.

والتسامح هو اللبنة الاساسية في بناء العقد الاجتماعي لأي دولة او مجتمع. فبتسامحك تتنازع عن جزء من حريتك مقابل المصلحة العامة، و تتقبل وجود الآخر و افكاره، التي لا تضر بك ولا بحريتك، وان كنت لا ترى ان هذه الافكار هي الافضل.

والتسامح هو شكل من اشكال الحرية، فبتسامحك مع الآخر تعطيه حقه في التعبير عن نفسه. و هو،اي التسامح، خيارك الخاص وحريتك التي تختارها بنفسك. وفي المقابل فإن التسامح هو شكل من اشكال التنازل عن حريتك في مقابل المصلحة العامة.

اذا فنتاج التسامح هو التعددية في الافكار و المعتقدات.

وبدون التعددية الديموقراطية لا يوجد ديموقراطية، فالديموقراطية نتاج للتعددية والاختلاف، وهي صراع ايجابي بين الاضداد بحيث يحاول كل ضد ان يثبت جدارته.و من خلال هذه الصراع بين التعدديات الديموقراطية يلعب التسامح دورا مهما في تطوير اداء المجتمع "فالتطور الانساني بحاجة لشرطان ضروريان هما الحرية وتنوع المواقف" *.

تبدأ المجتمعات الناشئة بنشاط وتطور كبير ذلك ان التنوع الفكري او الديموقراطي فيها كبير جدا. وتصل هذه المجتمعات لمجموعة من الحقائق و العادات الناتجة عن جدلها الخاص، وهي ما تجعلها اكثر تراصا وقوة يوما عن يوم.

و بما ان الانسان كما يقول جون ستيورات ميل يميل الى الاعتدال في النزعات، فما تلبث هذه المجتمعات لتدخل في طور من التجانس الفكري والسياسي. ونتيجة لهذا التجانس يقل الاختلاف وتقل التعددية وبذلك فقد يدخل المجتمع في حالة من الجمود الانساني. فيصبح التغيير لمجرد التغيير لا بسبب الحاجة للتغيير، فالناس متناغمة نوعا ما و متقبلة الاختلافات بينها.

وهنا تأتي مهمة المجتمع بالمحافظة على جدله الخاص به، فبدل تعليم الابناء وتلقينهم الحقائق التي تم التوصل اليها، يصطنع المجتمع دائما جدلا خاصا بأبنائه، ليصل الأبناء من خلال هذا الجدل والتجربة العلمية لنفس الحقائق بل ولحقائق اكثر دقة. وهنا يكون المجتمع قد حافظ على شروط التطور من خلال تقوية الحرية والتسامح و دعم التعددية وتنوع المواقف.

Friday, February 24, 2012

التسامح و الاسلام ثقافه و ممارسه



صافح!؟ لم يصافح!! سيصافح؟ لا، لن يصافح! ربما يصافح؛ فليصافح! وماذا لو صافح؟ 
انشغلت وسائل الإعلام الجماهيرية وشغلت جماهيرها معها بقضية مصافحة الملك عبدالله لشمعون بيريز في مؤتمر ثقافة السلام (!) المنعقد في نيويورك الأسبوع الفائت، وتناقلت الصحف والفضائيات بالتفصيل المملّ الإجراءات البروتوكولية التي أُعدّت بحرص شديد لمنع حدوث لقاء مباشر بينهما قد يستدعي المصافحة (المحرّمة) ويسبب إحراجاً لأيّ من الطرفين (المتوافقين المتخاصمين)، مع أنه كان من المفترض أن لا يُدعى مرتكبو جرائم الحرب الصهاينة لحضور هذا المؤتمر، إلا إذا كان الهدف منه مظلة للتطبيع مع إسرائيل. 

لذا لم يفوّت بيريز على نفسه فرصة ردّ تحية بقاء الملك عبدالله في القاعة أثناء إلقائه (بيريز) كلمته بغزل صريح حين قال له: "أتمنى أن يصبح صوتك هو الصوت السائد في المنطقة بأكملها وبين كل شعوبها، فرسالتك هي الرسالة الصحيحة الواعدة"، مطالباً إياه بإحياء المبادرة السعودية للسلام، والتطبيع الكامل للعلاقات، والأهم من كل ذلك القيام بجهد مشترك من أجل مكافحة الإرهاب، كما لم يفته أن يذكّر بخبث شديد بحادثة لقاء الملك فيصل ووايزمن قبل 89 عاماً حيث أصدرا وعداً مشتركاً للتفاهم بين اليهود والعرب، في حين خلت كلمة الملك عبدالله من أي ذكر للقضية الفلسطينية والإرهاب المنظّم الذي يمارسه الإسرائيليون ضدّ الفلسطينيين وبالأخص أهل غزة من قتل وإبادة وتجويع وحصار، في تجاهل تام لجميع الحقوق المدنية والمواثيق الدولية والمضي قدماً في تهويد القدس المحتلة، واكتفى بمجموعة من التنظيرات والمواعظ الدينية الفضفاضة التي تليق بخطيب جمعة أو جماعة لا قائد أكبر دولة عربية في محفل دولي وفي حضور ثمانين من كبار قادة العالم السياسيين والدينيين، ليخرج المؤتمرون (المحبّون للسلام!) بإعلان نيويورك رافضين أن يضمّنوه فقرة تدين الاستهزاء بما يُعتبر مقدّساً لدى أصحاب الأديان.

مناقشة اختلاف الأديان، والدعوة لحوار الحضارات وثقافة السلام، لم تعد ترفاً فكرياً، ولا يصح أن تتحوّل إلى بهرجة إعلامية، أو نزهة سياحية، بل هي ضرورة حيوية وملحة لا تحتمل الانتظار، ولكن وكما أشار الرئيس اللبناني في المؤتمر أنه لابد من إرساء قواعد الحوار (الحق) فـ"القدس مدينة السلام، ولقاء المؤمنين بأديان التوحيد السماوية لا تحقق دعوتها التاريخية ما لم يرفع الظلم عن أبنائها وعن أبناء شعب فلسطين"، كما أنّ رعاية السعودية مؤتمراً دولياً لثقافة السلام في نيويورك في حين أنّ المطالبة بأبسط حقوق المواطنة على أرضها محفوف بالمخاطر، والتمييز المذهبي والديني قائم فيها على قدم وساق، والحال أنّ شعوب معظم بلاد العالم تشتكي من ظلم واستبداد وتمييز يمارس ضدّها برعاية بعض هؤلاء المتشدّقين بقيم السلام والمحبة والتسامح.

حدّدت الأمم المتّحدة يوم السادس عشر من نوفمبر "يوم التسامح العالمي"، ولعلّ هذا المفهوم من أهم المفاهيم التي يجب أن توضع لها ميزانية خاصة وبرامج مدروسة لكي نضمن ممارستها على أرض الواقع بطريقة منهجية وبتطبيق جميع معانيه الواسعة كالتسلّح بالعقل المنفتح على الآخر، والعقلية التي تتسع لتفهّم المختلف وقبوله، وقوة التحمّل، وخاصة أننا نمرّ بمرحلة تعاظم فيها الانتماء المذهبي على حساب الحسّ الوطني والشعور الديني الأخوي.

في يوم التسامح العالمي لابد من مراجعة الدول والشعوب لما خلّفه التطرّف المذهبي أو الديني أو الأيديولوجي من مآسي وكوارث وغصص إما بمساهمة مباشرة من تلك الأطراف أو بالصمت عمّا يجري، فعلى الدول تخصيص جزء من ميزانيتها لإعداد مناهج تربوية متخصصة لتعليم الطلاب معاني التسامح الواسعة، وتدريبهم على ممارسة خلق التسامح فيما بينهم، وإعداد برامج مكثّفة لإفساح المجال أمام مشاركة الأطفال وطلاّب المدارس في مناقشة وتطبيق مفهوم التسامح وتفعيله لنخرجه من أروقة المنظمات إلى قاعات الدرس بسواعد من يؤمنون ويحلمون بعالم يسوده التسامح والسلام ثقافة وممارسة.

في منطقتنا العربية والإسلامية قد لا يكفينا تحديد يوم واحد للتسامح لنمحو الآثار النفسية والاجتماعية التي تركها العنف والتطرّف على أبناء الأمة بل نحن بحاجة إلى "عام التسامح"، وليس بالضرورة أن ننتظر من يعيّن لنا سنة خاصة بالتسامح، فلتأتِ المبادرة منا لنحوّل أوطاننا إلى ورشة عمل مكثّفة تنشر قيم التسامح والسلام بمبادرات فردية أو جماعية، محلية وعالمية، بكتابة مقالات وقصائد وقصص وأناشيد وإعداد لوحات ورسومات وجداريات، وباستغلال المناسبات المختلفة، أو الإعلان عن مسابقات إقليمية ووطنية، وتعيين جوائز قيّمة لمن يساهم في أعمال تفضي إلى إعادة الاعتبار لهذا الخلق (التسامح) الذي غُيّب عنّا في سنين اللاوعي وأصبح كالغريب بين أهله، ولننشغل بأمثال ذلك وندع مناقشة مصافحة بيريز أو عدم مصافحته للمطبّعين والمطبّلين.



Friday, February 17, 2012

عن التسامح المنشود


سألني صديقي ونحن في أحد إجتماعات مؤسسي كرسي الدراسات القبطية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (ومن بين مؤسسيه ثلاثة مسلمون هم الأمير طلال بن عبد العزيز ووزير السياحة المصري الأسبق فؤاد سلطان وكاتب هذه السطور): لقد لاحظت في إجتماعاتنا هذه أنك لابد وأن تكون قد طالعت عشرات الكتب عن تاريخ المسيحية في مصر وتاريخ الكنيسة المصرية كما لاحظت أنك تبحرت في مسائل اللاهوت المسيحي بوجه عام وحسب أدبيات المسيحية الأرثوذكسية القبطية .. وكذا معرفتك بالأديرة المصرية - فما الذي دفعك لهذا الإبحار في هذا المجال بهذه الكيفية؟.. قلت: الشعور بالذنب!.. رأيت الدهشة الممزوجة بالتساؤل الحائر في عينيه قبل أن ينطق لسانه بالسؤال: مما؟ قلت: في يوم سمعت شخصاً يتحدث عن خلاف البابا كيرلس الخامس مع كل من بطرس باشا غالي والمجلس الملي وتدخل الخديوي في الخلاف وإتخاذه لموقف مؤيد للمجلس الملي-فشعرت بغصة في حلقي: كيف طالعت مئات الكتب عن فلاسفة من ألمانيا والدانمارك وفرنسا وبريطانيا وكيف طالعت عشرات الكتب عن الثورة الأمريكية وعن الثورة الفرنسية وعن الثورة الروسية وكيف طالعت العديد من الكتب عن كونفوثيوس والصوفيين المسلمين (وبالذات المغاربة والعراقيين)… كيف حاولت ألا أترك مجالاً من مجالات العلوم الإجتماعية والإنسانيات إلا وطوفت به-وهاأنذا أجد نفسي أمام حقيقة مضعضعة: أنني لم أقرأ كتاباً عن تاريخ الكنيسة المصرية.. ولم أقرأ كتاباً عن الخلافات اللاهوتية الكبرى التي أدلت فيها الكنيسة المصرية بدلوها الهام.. ولم أعرف من هو أثناسيوس وما هو دوره في صياغة قانون الإيمان المسيحي… ولم أعرف شيئاً عن أنطونيوس أبو الرهبان في العالم كله.. ولم أعرف شيئاً عن المجامع.. وعن مجمع خلقدونيا بالذات وأثر الإختلاف الذي شقه… ولم أرى ديراً واحداً في أديرة البحر الأحمر أو برية شيهيت (الصحراء الغربية) أو أديرة الصعيد وأشهرها "المحرق" و"درنكة". ولم أعرف من هو المصري من بين مشاهير القديسين…

وكعادتي مع نفسي-إذ آخذها بالشدة والصرامة اللتين لا يكاد معظم الناس يقدرون على تخيلهما-كذلك فعلت-وكانت النتيجة بعد عشرين سنة أنني أصبحت أستقبل الطلبة الذين يعدون رسائل الدكتوراه في تاريخ الكنيسة المصرية أو تاريخ الرهبنة المصرية أو اللاهوت الأرثوذكسي المصري أو الفن القبطي أو تاريخ الأقباط السياسي والإقتصادي والإجتماعي منذ دخول الإسلام مصر لأسلط الضوء على جوانب لم يكونوا عارفين بها… ولأدلهم على مراجع لا ينبغي لهم ألا يكونوا مطلعين عليها.

سألني محدثي:وماذا كان أثر ذلك عليك؟ قلت: أنني أصبحت على دراية جيدة بقرون من تاريخ وطني (مصر) وبعناصر أساسية من عناصر تكوين التاريخ المصري والشخصية المصرية… وأهم من ذلك أنني تخلصت تدريحياً من أية رقائق من التعصب قد أكون عشت بها سنوات.

سألني محدثي في دهشة: وهل تنتظر أن يفعل كل مصري ذلك لكي نتخلص من التعصب؟ قلت: لا… أنتظر ذلك من خاصة المثقفين والنخبة التي تسمى بالإنتلجنسيا. هؤلاء هم الذين سيجبرون برامج التعليم على أن تزرع في عقول وضمائر أبناء وبنات هذا الوطن (مصر) الإحترام الأصيل لمعتقدات الآخرين… والتعايش البناء مع التعدد… مع قدر معقول من التعرف على "الآخر". أنا لا أتوقع أن يعرف المصري المسلم العادي معنى أن يرفع السيد المسيح في أيقونة إصبع واحد (ترجيح نظرية الطبيعة الواحدة) ومعنى أن يرفع إصبعين (ترجيح نظرية الطبيعتين التي تأخذ بها الكنيسة الكاثوليكية).. ولكنني أن يعرف ذلك (وكثير غيره) كبار المثقفون وقادة الفكر… وهؤلاء هم الذين يبثون قيم قبول الآخر والتسامح الديني والثقافي والتعايش الإيجابي مع التعددية… وفي نفس الوقت فإن هؤلاء هم الذين سيدمرون مؤسسة مُلاَّك الحقيقة المطلقة.

إن التعصب وعدم إحترام حق الآخرين في الإختلاف هو من جهة من ملامح العقل البدوي الذي غزا بثقافته (أو ببعض ثقافته) الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية وتسلل لها من عدة طرق مثل أبناء هذه المجتمعات التي ألجأتها ظروف الحياة للعمل عند البدو… ومثل إمتلاك البدو للمحطات الفضائية.. وكذلك للصحف والمجلات… بفضل "البترودلار" والذي جعل رجلاً مثل السعودي (من أصل حضرمي)"ص.ك" من "قادة الإعلام" في بلد أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى (يقف شعر رأسي وانا أكتب تلك الحقيقة)… كما أن التعصب ينتقل من "الطبقة القدوة" أي رموز المجتمع في كل المجالات.. وأخيراً فإن مؤسسة التعليم هي إما باذرة بذور التعصب في القول أو باذرة بذور السماحة والتآلف والتعايش مع الإختلاف والتعدد.

Friday, February 10, 2012

ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف




بات من المؤكد والضروري أن نشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف حاجة أساسية وملحة وخاصة في ظل هذه الظروف الحساسة والحرجة التي نمر بها من كافة النواحي التي نحن فيها، ويجب زرع هذه الثقافة في نفوس وعقول الجيل النشء، لأنها تساهم بشكل فعال في خلق جيل واع قادر على تحمل أعباء المسؤولية وقيادة المرحلة القادمة بشكل ايجابي وسليم، لأن مثل هذه الثقافة تشكل ترسيخاً قوياً لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الربح والخسارة.
لأن الثقافة بشكل عام هي ثقافة إنسانية، لذلك لا توجد ثقافة عديمة القيمة كلياً، أو ثقافة كاملة مكملة تحتكر الحقيقة الإنسانية وتختزل ثراء الوجود وتمتلك حق فرض معاييرها وايديولوجيتها وأجندتها السياسية على الآخرين ، بما في ذلك الليبرالية التي تعيش أبهى أيامها وأكبر انتصاراتها. لذلك نرى بأن السبب الكامن وراء الاستقرار النسبي والغنى الثقافي لمعظم المجتمعات الغربية يعود بالضبط إلى حقيقة أنها لا تعتمد على عقيدة سياسية وحيدة أو وجهة نظر واحدة للعالم.
ولا يتحقق التسامح وقبول الآخر، إلا بالحوار والتواصل، والمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار، لأن إقامة حوار بناء، وخلق فضاء للنقد والفكر المستقل يسود المجتمع حالة من الاستقرار والسلام والتعايش مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه.
وإن الحوار والتواصل دائماً وأبداً هو الطريق الصحيح لحل كافة القضايا العالقة، وهو البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، وبالحوار نحافظ على التواصل والمحبة والسلام، ونعمق معاني الديمقراطية والتعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرد الدعوة إليه دون اتخاذ خطوات عملية تترجم ما اتفق عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتنمي الثقة بين المتحاورين، فإذا لم يطمئن المتحاورين إلى المصداقية في إجراء الحوار، وإذا لم تستبعد العوائق والموانع فيصبح الحوار بدون غاية أو هدف، أو مجرد حوار من أجل الحوار.
إن المجتمع المتجانس ثقافياً يتمتع بقوة مميزة خاصة به، ويخلق مناخاً تشترك فيه الثقافات المختلفة لحوار مثمر يعود بالنفع على الجميع، ويساعد على إقامة حس مجتمعي تكافلي، وبذلك يسهل عملية التواصل الداخلي بين أبناءه، ويغذي ثقافة كثيفة متماسكة ويمدها بأسباب الحياة.
وإن قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أي سبب آخر، وطالما أن الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
وإن التسامح والديمقراطية لهما اتجاهان أي اخذ وعطاء وتفاعل ايجابي مع قيم إنسانية جديدة بعيدة عن روح التعصب والكراهية وشطب الآخر المختلف.
حيث إن غياب الديمقراطية تنعدم إمكانية تكافؤ الفرص في التعبير عن الرأي, وإن غياب العدالة السياسية تنقطع فرص الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع, وإن غياب سلطة القانون يقع الضرر على الجميع بدون استثناء.
هنا أود أن أشير إلى مسألة جد مهمة وهي: قضية الحجاب عندما أثير من قبل الحكومة الفرنسية العلمانية، فتح باب الحوار واسعاً أثنائها على مصراعيه بين جميع مكونات المجتمع الفرنسي، فقد كان باستطاعة الفرنسي أن يقول إن الحجاب يستفز مشاعره الدينية أو مزاجه الشخصي، وبالتالي يقف بدون تحفظ ضد الحجاب ويطالب بمنعه، ولكن وجود دستور معترف به من قبل الجميع وهذا الدستور يحترم لكل إنسان حقوقه الشخصية جعل المنع صعباً.
وفي المجتمعات الغربية توجد مئات من المجلات والكتب والجمعيات والهيئات والمواقع التي تمارس النقد المعرفي للدين، ويتقبلها الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي برحابة صدر، دون أن يضيق بها أحد أو يدعو إلى الحد من حريتها، أما في مجتمعاتنا فيواجه النقد المعرفي للدين بالرفض والاستهجان، بل وبالدعوة إلى محاكمة من يمارسه بحجة إهانة (للمشاعر الدينية وللمقدس).. لأننا لم نصل بعد إلى أمر هام وهو أنه في النقد المعرفي لا توجد مقدسات تعلو على النقد.
إن مثل هذه الثقافة مفهومة، لأنها رد الفعل الطبيعي لمن لم يتعلم بعد ثقافة الاختلاف والتعددية الفكرية، ولم يعتد على قبول الآخر المختلف، ولذلك من الطبيعي أن نسمع من يصف النقد المعرفي للإسلام وبنيته الفكرية بأنه إهانة للمقدسات.
ولكن غياب ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف هو من أكثر عوامل الواقع الذي يعاني منه مجتمعنا في الوقت الحاضر، وهذا يمثل مسؤولية يجب أن يضطلع بها الجميع من قوى سياسية ومنظمات مجتمعية ومؤسسات ثقافية وحتى علماء دين، ولكن بعض ما تم ذكرها هو فاقد لما عليه أن يعطيه للمجتمع، وحيث أن فاقد الشيء لا يعطيه بأي حال من الأحوال.
وإن الاعتراف والإقرار بثقافة التسامح وقبول الآخر والاعتراف به هو أمر جيد ومقبول نظرياً ولكن يجب العمل والنضال من أجل ترسيخ قيمة هذه الثقافة وتطبيقها في الحياة اليومية بشكل يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء. 
من أجل العمل على نشر هذه الثقافة لا بد من اتخاذ بعض الخطوات العملية في هذا المجال ألا وهي: 
- تبني برامج علمية وذلك لتنمية وعي مجتمعي... 
- وضع مناهج تعليمية جديدة لإعداد جيل واع قادر على تحمل أعباء المرحلة... 
#- إيجاد أدوات إعلامية متطورة على جميع الأصعدة... 
#- نبذ كل أشكال التطرف والتخلف والتشدد في المجتمع عن طريق إقامة دورات تعليمية وندوات تثقيفية... 
إن فكرة التسامح وقبول الآخر، واللجوء إلى الحوار وإلغاء فكرة شطب الآخر والثأر وإناطتها بالقانون، يعتمد على استعداد الأطراف التي تريد بناء مستقبلها على أساس تغليب المصلحة العامة على الخلافات الشخصية والمشاعر الدفينة البعيدة عن التعقل والتروي في نتائجها.
وهنا لا بد من الإشادة إلى بعض الشخصيات التاريخية المتسامحة: 
- المهاتما غاندي: صاحب سياسة المقاومة السلمية (فلسفة اللاعنف) وتسامحه ومن أقواله:
"أين يتواجد الحب تتواجد الحياة."
"إن اللاعنف هو القوة العظمى لدى الإنسان. وهو أعظم من ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرة على التدمير."
توفي مقتولاً برصاص شخص هندوسي متعصّب لم ترق له عظمة التسامح الغاندية.
- القائد الكردي الخالد مصطفى البرزاني صاحب الشخصية الكارزمية والمعروف بتسامحه وتعامله الإنساني مع الأسرى، فعبر ذات مرة بصريح العبارة عن إستراتيجيته العسكرية قائلاً: ( إن عقيدتي هي تحقيق مطالب شعبي وأن أفدي روحي في سبيل قضيتي .... وان حزبنا ليس ضد العرب ولا ضد أي قومية أخرى، ولا نشارك في ثورة من أجل اسم أو شهرة، إن العرب والأكراد أخوة، ولا يجوز التفرقة بين الأخوة، إننا لم نهاجم أحداً بل ندافع عن حقوق شعبنا الكردي ).
- بابا الفاتيكان والكاثوليك المسيحيين في العالم يوحنا بولص الثاني: تعرض لحادثة اغتيال عام 1981 من قبل تركي متعصب يدعى (علي أقجا ) فخرج على أثرها بجروح بالغة، وادخل المستشفى واخضع لعمليات جراحية كادت تودي بحياته، لكنه بالرغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه وأخلى سبيله بكل رحابة صدر !!!
وبالرغم هذا وذاك نلاحظ أن هناك تصميماً واضحاً لدى كافة المهتمين والغيورين على حرية الإنسان وحقوقه المشروعة في الاستمرار بالعمل والنضال الدؤوب وبالوسائل المتاحة والممكنة في نشر هذه الثقافة مهما كانت الضريبة، وبفضل العولمة والتقنية الحديثة، لا يمكن لأي مجتمع اليوم عزل نفسه عن المؤثرات الخارجية، خصوصاً مع انتقال رأس المال والتكنولوجيا والقوى العاملة والأفكار وما إلى ذلك بحرية عبر الحدود الإقليمية وبالتالي إنتاج صيغ جديدة للتفكير والحياة.

Friday, February 3, 2012

من اجل ترسيخ ذهنية التسامح



ظهر مفهوم التسامح منذ أمد في الفكر العربي، مما جعله ينتمي إلى الإشكالية المحورية التي ارتبطت بالطور الثاني وقد تمركزت مباحثها حول دراسة أسباب الهزيمة: هزيمة حزيران 1967 , وهزيمة الدولة الوطنية في بعض الأقطار العربية لإنجاز أسباب التقدّم والتنمية وتحرير الإنسان وعقلنه الفكر، والارتقاء بالثقافة لتكون مرآة يظهر عليها المنجز الحضاري والمعرفي والحقوقي والتقني، وتميهداً له في الآن ذاته، وقد نجم عن ذلك تفكير نقدي في "التراث" هذا المفهوم الإشكالي الذي اخترق بقوة الخطاب العربي منذ أواخر الستينيات إلى حدود زمننا هذا وطرحة العلاقة بين التراث والحداثة فظهر الحديث عن المفاهيم العقلانية والقيم الفكرية العلمية والتاريخية النقدية أو الإنسانية الخلقية التي تضمنتها مؤلفات المفكرين، والأدباء، والفلاسفة، والعلماء العرب، أو ارتبطت بسيرهم، وفي هذا السياق برزت المشاريع الفكرية النظرية المتعلّقة بقراءة التراث العربي والبحث في إمكانات جديدة. محكوم بالنظر في الثنائيات ومنها: التراث/الحداثة. الأصالة/المعاصرة. السلفية/التقدمية. العقلانية/الدغمائية (أو اللاعقلانية). العقل/الخيال. العلم/الأسطورة. الحداثة/القدامة. التسامح/التطرّف. قصيدة النثر/ القصيدة العمودية....ولعله كان لأحداث 11 سبتمبر 2001 وللحرب سنة 2003 -ولتأزم أوضاع القضيّة الفلسطينية ولتصاعد عمليات العنف والإرهاب والاستشهاد في شتى أنحاء العالم تعبيرا عن حقوق ضائعة، واحتجاجا عن أوضاع قائمة- الأثر البارز في مسارات الفكر العربي المعاصر من جهة طبع أطروحاته واهتزاز مواقفه وتحولها إلى حد بدا معه أنه يحيا وضعا قلقا، وإشكاليا تجاه الوعي بالذات والموقف من الآخر أو ضبط أطر التواصل وآليات العمل وما يرافق ذلك من بناء للتصورات والرؤى وتحديد آفاق القول والعمل
هنا تأتي الايدولوجيا التي تتفاعل مع التغير على سبيل التوظيف والتجيش والاحتراب او على سبيل التعايش والتسامح ؟ 
وهناك نمطان من الثقافة ؛ الأولى:مرفوضة ، والأخرى: مقبولة ، إما المرفوضة فهي :
الأيديولوجية الشمولية : لقد أخذ هذا النمط من الأيديولوجيات بالزوال ، ونحن نعيش عصر زوال الأيديولوجيات (أعني به العصر الذي طغت فيه المذاهب الشمولية أو النظريات الكبرى ، ومشاريع الطوبة التي وعدت بإقامة فردوس أرضي يستعيد أو يمارس فيه الإنسان حريته ويبلغ كفايته , ويحقق سعادته لقد تزعزعت اليقينيات المطلقة والثوابت الراسخة والقبليات ، وأصبحنا الآن على عتبة عصر جديد لمصلحة نظرة جديدة أقل إطلاقا وثباتا .أما الوجوه السلبية لهذا النمط من الأيديولوجية فهي
إن هذا النمط يطغي فيه الوجه السلبي على الإيجابي ، بمعنى إنها قد تفلح في أن تزين للمضطهدين أن في مقدورهم تحرير أنفسهم وتبديل أحوالهم ،لما هو أحسن .و بهذا تتمكن من تعبئة الجموع المؤدلجة في إسقاط الاستبداد ، وهذا أقصى ما تستطيعه يكمن في الاستيلاء على السلطة إنها يوتوبية تحقق الاندفاع والتهيج وقد تحقق التغيير وتكسر السائد المهيمن المسوغ للسيطرة ، إلا أنها أيضاً تترك آثاراً مدمرة اقتصادياً وإنسانياً بما تخلفه من ضحايا سواء كانوا من المؤمنين بها أو من غير المؤمنين .لكن ماذا بعد ذلك ؟
فهي لا تستطيع بناء النظام البديل الذي يتجاوز نواقص القديم ، لكن هذا الأمر بحاجة إلى رؤية عقلانية واسعة لا أيديولوجية طوباوية مشبعة بالعداء الذي يستبدل الاستبداد والعنف بآخر جديد ، لعل هذا هو السبب في أن أغلب الثورات تفشل في الربط بين اليوتوبية الدافعة للثورة والمشروع الأيديولوجي السياسي لأن الأخير بحاجة إلى رؤية عقلانية ولعل هذا أيضاً ما أجج كثيراً من الثورات وجعلها تلتهم أبناءها .
إن هذه الأيديولوجيات لم تزل القهر ولم تحقق الحرية ، بل إنها أوغلت في بناء آليات القهر ومعسكرات التعذيب والمقابر الجماعية وآليات التضليل والتزييف على مختلف الصعد والأشكال .
إنها لم تنتج نظاماً تعددياً مثلما رفعت من شعارات ، بل إنها عملت على توحيد اللغة وقولبة السلوك وتدجين العقول مما جعل مصير أغلب الثورات معروفا و هو إقصاء الخصوم إلى معسكرات الاعتقال أو إلى المقابر أو التهجير إلى الخارج .ومرد هذا إنها لم تتجاوز النسق الذي ترسب في الأنا الجمعية ،هذا النسق غير المفكر به القائم على ذهنيه التفرد والذي يمتد عميقاً في الذهنية الجمعية .وإنها أيضاً لم تنتج واقعاً بديلا حرا غير مؤدلج ، يتسم بالمرونة والانفتاح والابتكار وهذا يتطلب خلق مؤسسات جماعية يمكن الاحتكام لها لا إلى الذهنية الفردية للفرد أو الطائفة أو الحزب ، بل إنها على الضد من ذلك تماماً تمركزت مما جعلها تسقط في العماء الأيديولوجي الذي يتحول فيه الفرد حاكما يمارس دوراً بطولياً تخيلياً يستعيد أنساقا هاجعة في الأنا الجمعية تعود إلى أسباب" سوسيو ـ سيكولوجية" تمس هذه الأنا في طبيعة تكوينها التاريخي تعود إلى قوة ماضيها الذي يلتهم حاضرها . عبر مقولة الشخصية المركزية الرمزية في وجدان الجماعة السياسية لأنها مشغولة إلى حد يومنا هذا بالبحث عن القائد / المعلم / المنقذ من الضلال .
إنها لم تعدم خلق أيديولوجيات بديلة ترفع النضال ضدها دينية / قومية / مذهبية .. الخ ؛ فبوجود وأناس مهزومين مقهورين لا يمكن أن يتوقف المجتمع عن خلق أيديولوجية تدميرية جديدة ، لإنه المجتمع المرشح للعنف بأشكاله وأدواته، والمتقبل لكل الأفكار والإيديولوجيات التي تخاطب جمهور المحرومين والمقموعين. فالفقر لا يقود إلى الاستقرار، والبطالة والعطالة لا تؤديان إلى الأمن، بل إلى بروز حالات التمرد والعنف لإنهما الأرضية الاقتصادية - الاجتماعية.
إن الأيديولوجية من خلال تمترسها واحتكارها للمعنى والسلطة خلقت آخرين في الداخل والخارج هم أيضاً لهم المطالب نفسها ؛أي: السلطة وبذات المنطلق تعتمد وسائل القهر والعنف والمواطن والوطن أكبر الضحايا فيها 
اما الأيديولوجية المقبولة فهي 
إن الأيديولوجية حالة لا يمكن عزلها وإزالتها فلابد من البناء على الإيجابي منها واحتواء السلبي منها .أيديولوجيا تقوم على اللاعنف والتسامح والتعدد والتداول السلمي للسلطة على أساس إن هذا البلد يتكون من فسيفساء عرقية ودينية ومذهبية استطاعت أن تتوحد وتتعايش مئات السنين . هناك دعوات ومحاولات لتفجير المخزون التاريخي للانقسام والفرقة ، واستدعاء النزعات العصبية من الماضي السحيق من أجل تحطيم وحدة الجماعة في العراق من أجل خلق تجربة جديدة تستجيب لحاجات العراق لابد من إشاعة مفهوم التسامح ، والعمل على ترسيخ روح التعايش بوصفهما الطريقين اللذين سوف يحققان النفاذ من هذا الخانق 

Friday, January 27, 2012

التسامح في الأديان ، وبينها



هل "عدم التسامح" ملازم للأديان التوحيدية أو الابراهيمية كما يسميها البعض ؟ ... وهل الأديان القائمة على القانون أو تعدد الآلهة أكثر تسامحاً وأقل تعصباً ؟ . طرح هذا السؤال المؤرخ الفرنسى " جوستاف لوبون " ، الذى قال : " أن مصر ظلت مثالاً للتسامح الدينى ، سواء من داخلها أو ممن غزاها . فقد كان هذا يعترف بديانة ذلك ، وذلك يعبد آلهة الآخر ، إلى أن جاءها المسيحيون ثم المسلمون فعرفت التعصب الدينى " .
وعلى الرغم من أن أتباع الأديان التوحيدية ( اليهودية والمسيحية والاسلام ) يؤكدون أنها تحتوي علي مادة خصبة لتقوية التسامح ، فلسوء الحظ لم تكن هذه الأديان متسامحة على الدوام . وهناك من يرى أن الأمر ليس كذلك ، وإنما هو أعقد وأعمق ، فالمؤمنون بتعدد الآلهة فى العصور الكلاسيكية القديمة ، واجهوا مشكلات جمة فى تعايش المعتقدات الدينية المختلفة جنباً إلى جنب ، بصرف النظر عن عبادة الامبراطور التى كانت سياسية أكثر منها دينية . فالتسامح لم يكن قائماً على الوجه الأكمل كما يريد البعض أن يصوره ، أو يجعلنا نعتقده . فـ "سقراط" حكم عليه بالموت لأنه وثق بالصوت الذى فى داخله ، والذى كان متعارضاً مع آلهة مدينة أثينا "(1) .
ويذهب البعض إلى أن عدم التسامح يرتبط فى معظم الأحوال بما لدى العقائد المختلفة من طموحات سياسية . وأن التسامح كان يتم إذا لم يكن المعتقد يعبر عن ظاهرة سياسية . وأن تعايش الطاوية والبوذية والكونفوشيه فى الشرق الأقصى ، على سبيل المثال ، يمكن تفسيره بأنه ليست فى أية ديانة منها خطورة سياسية .
أما البعض الآخر فيرجع اللاتسامح أو التعصب إلى "الدوجما" ، وإلى الارتباط الانفعالى بالأبعاد الطقسية للدين ، أى دين ، أكثر من الارتباط ببناه العقلية ، وفى الحالتين ادعاء امتلاك الحق والصواب ، ومفاتيح الدنيا والآخرة ودخول الجنة أو النار . وحيث لا يمكن أن يوجد أكثر من "مطلق" واحد ، أو دين واحد صحيح ، فإن الصراع بين الأديان سيظل قائماً حتى يقصى الدين الأقوي عددا وعدة جميع الأديان الأخرى .
قبل سنوات دعا الباحث اللاهوتى السويسرى "هانس كونج" فى دراسته القيمة "الأديان العالمية والروح العالمية" إلى البحث عن المشترك بين الأديان العالمية لإظهار الروح التى تميز هذه الأديان من أجل التواصل والتفاهم بين البشر . وكان جُل ما أظهره من أمور مشتركة يندرج تحت حقل ( الأخلاق ) ، خاصة "القاعدة الذهبية " التى قال بها كونفوشيوس أولا وتسربت إلي كل الأديان فيما بعد : " لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن يعاملوك به " . وفى صيغتها اليهودية : " لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن يضطروا إلى معاملتك به " . وفى المسيحية : " عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به " . وفى الإسلام : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
لكن "كونج" لم يقل أن هذه الأمور المشتركة تنفى الاختلافات بين الأديان ، وإنما قال بوجوب وضع قواعد مشتركة تقضى على الأخلاقيات المختلفة والمتناقضة والتى تعادى بعضها بعضاً . وهذا الرأى يتبع موروث الإيمان بالقانون الطبيعى الذى يفترض أن للقانون والأخلاق مصدراً واحداً مشتركاً ، هو القدرة على فهم الخير بواسطة العقل الطبيعى .
وعلى النقيض من هذا الموروث يعكس "التنوير" أنه ضمن المجتمع العالمى ، تتعايش التوجهات الأخلاقية والدينية المتنوعة ، وأن لمهمة القانون الأساسية هي أن تتيح للتنوع والاختلاف أن يتعايش في سلام . و الفيلسوف والشاعر والمؤرخ الألماني " هردر" كان أكثر مفكرى القرن الثامن عشر تمتعا بعمق الفهم والإحساس بذلك ، فكل شعب فى نظره صوت فردى يشارك فى "هارمونية" عالمية شاملة تضم الجميع بأديانهم وأخلاقيتهم وثقافتهم . ونحن نصادف فى مجموعة أغانى هردر القومية ، أغانى تمثل الثقافات المختلفة ، من جرمانية وسلافية وكلتية وسكاندنافية وليتوانية وتركية .
وكانت وراء هذه النزعة الإنسانية الكونية روح دينية عالمية جديدة ، زادتها قوة فقد ذهب المجدد الألماني الكبير " شلايرماخر " إلى القول بـ "الدين العالمى" ، ووضع نظرية له فى كتابه "أحاديث عن الدين" ودافع عنها فى هذا الكتاب ، الذى يضم كل أنواع المعتقدات والعبادات . وأصبح من المستطاع انطواء جميع " كفار" ( أحرار ) العصور الغابرة تحت لواء هذا المثل الدينى الأعلى . وذكر شلايرماخر أن سائر الاختلافات ( الغبية ) بين الأديان تبدو غير ذات موضوع فى نظر أى مشاعر دينية حقة . فالدين محبة ، ولكن هذه المحبة لا تتجه إلى هذا أو ذاك أو إلى موضوع متناه أو خاص ، أنها تتجه إلى العالم كله ، إلى اللاتناهى" (2) ... وللحديث بقية .
هوامش :
1- هناك محاولات عديدة لإعادة تقييم محاكمة سقراط من جديد ، انظر بشكل خاص : أى . أف . ستون : محاكمة سقراط ، ترجمة ، نسيم مجلى ، المشروع القومى للترجمة (316) ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2002 .
2- أرنست كاسيرر : الدولة والأسطورة ، ترجمة : د. أحمد حمدى محمود ، مراجعة أحمد خاكى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1975 ، ص 247 ، 248 .

Friday, January 20, 2012

فى خطورة تديين السياسة




 لو أن أحدا أراد أن يدلل على خطورة الزج بالدين فى السياسة لما وجد أفضل من الاستفتاء على التعديلات الدستورية نموذجا للتدليل على مخاطر تسييس الدين. فمع أنه كان من المفترض أن أساس الخلاف بين المصوتين بنعم والمصوتين بلا يتعلق بمضمون التعديلات ومدى دستوريتها إلا أننا فجأة وجدنا من يصنف المصريين إلى فسطاطين: مؤمنين وغير مؤمنين تبعا لاتجاهاتهم التصويتية.

بدأ هذا الاتجاه على استحياء عندما رُفعت لافتات تعتبر أن التصويت بنعم واجب شرعى ، ومع أن بعض تلك اللافتات كان يحمل بوضوح توقيع الإخوان المسلمين إلا أنهم نفوا مسئوليتهم فتصدى لحملها السلفيون الذين كانوا قبل شهرين يرفضون تماما أى خروج على الحاكم. وفى مرحلة لاحقة بدا أن الجبهة المعارضة للتعديلات آخذة فى الاتساع وبالتالى انتشرت فجأة فى كل الطبقات والمحافظات مقولة أن التصويت بلا يفتح باب تعديل المادة الثانية من الدستور. وبالطبع فإن هذه الشائعة السخيفة لم تنطلِ على كل من يعلم ما هى المواد الدستورية المطروحة للتعديل ، والواثق من أن تعديل المادة الثانية بالحذف لن يكون وكل الممكن هو التأكيد على الالتزام بمبادئ الشرعية الدولية لحقوق الإنسان فى صلب هذه المادة.

أما المواطن البسيط البعيد كل البعد عن دهاليز السياسة والذى تتملكه حساسية مفرطة من المس بدينه على أى نحو ، فإنه أخذ يُكون اتجاها مضادا للتصويت «بلا» حتى لا يتهمه أحد بالتفريط فى إسلامه. وهكذا حدثتنى معاونتى فى المنزل عن قلقها الشديد على المادة الثانية، وأكد لى حارس العمارة رفضه المطلق تعديل المادة الثانية، ورفع عامل السوبر ماركت سبابته محذرا من المساس بالمادة الثانية . خبث سياسى ما بعده خبث، وخلط للأوراق لا يرتدع صاحبه عنه لحرصِ على مصلحة الوطن أو لدرء الفتنة الطائفية التى اكتوينا بنارها قبل أسبوعين. 

ثم مع اقتراب موعد الاستفتاء جرى تطوير اللافتات المرفوعة فى أحياء مصر وعلى شبكة الإنترنت بشكل غريب، وكان أشهر تلك اللافتات واحدة ميزت بين المصوتين بنعم الذين يقفون مع كل من السلفيين والإخوان المسلمين ود. محمد سليم العوا وأ.فهمى هويدى ود.عبد الله الأشعل والشيخ محمد حسان ود.صفوت حجازى والشيخ محمد عبدالمقصود. والمصوتين بلا الذين يصطفون مع كل من: العلمانيين ود.محمد البرادعى ونجيب ساويرس وشريف عرفة وعمرو مصطفى وعمرو موسى وبسمة والكنيسة. فى هذه اللافتة اختلط الحابل بالنابل، وتدنى مستوى الدعاية السياسية إلى أسفل درك، وكشف ليس فقط عن حجب متعمد للعديد من الأسماء الوطنية المعارضة ولكنه أوضح أيضا أن هناك نفوسا مريضة تسعى للإيقاع فيما بين المسلمين وبعضهم وفيما بينهم وبين المسيحيين، هذا إلى ما تعبر عنه اللافتة من نظرة دونية للفن لا يفهم أصحابها أن الرسالة السياسية للفن لا تقل أهمية عن قيمته الإبداعية، وكيف بهم يفهمون؟ 

حتى إذا جاءت جمعة ما قبل الاستفتاء اعتلى الشيوخ المنابر وركزوا فى خطبهم على دعوة المصلين إلى التصويت بنعم. حول هذا المعنى سمعنا قصصا كثيرة من داخل القاهرة وخارجها، فهل كُتب على مساجدنا أن يُجير خطابها الدينى لخدمة توجهات الحزب الوطنى حينا ومصالح الإخوان المسلمين والسلفيين حينا آخر؟ فى الإطار السابق كان من المنطقى أن تعبئ كنائس مصر أتباعها من أجل التصويت «بلا» على التعديلات الدستورية، إذ ماذا عسانا ننتظر حين تشير الدعاية السياسية إلى أن التصويت بنعم يضع صاحبه فى جانب واحد مع الإخوان والسلفيين؟ أظننا لا ننتظر أن يقف مسيحيو مصر فى هذا الطابور. وماذا نتوقع حين يعلق مجهولون «يفترون على الإخوان» لافتات تعتبر التصويت بنعم واجبا شرعيا ؟ أظننا لا نتوقع أن يبادر المسيحيون إلى أداء هذا الواجب الشرعى حتى يثبتوا انتماءهم لمصر. 

وهكذا فإن الحجة الدينية تقابلها حجة دينية، وتوظيف الدين فى السياسة لا ينتج إلا فتنة طائفية، والاستقطاب الدينى لا يفعل إلا أن ينخر فى أساس المجتمع. ومع ذلك فإن ما يبعث على الأمل هو يقظة المواطن المصرى فى مواجهة التوظيف السياسى للدين. على الفيس بوك انتشرت حملات شبابية يرفع أصحابها شعار نحن أيضا نحب الإسلام لكننا سنصوت «بلا». وفى عدة مساجد أجبر المصلون المشايخ على التزام الصمت عندما دعوهم للتصويت بنعم، وفى حالات معينة تردد أنه وقع اعتداء على الشيوخ. وفى يوم الاستفتاء نفسه تم كشف واقعتين أتوقف أمامهما لأنهما شديدتا الدلالة. فى الأولى قامت سيدتان منتقبتان بتوزيع منشورات تدعو للتصويت بنعم أمام إحدى اللجان فتم الإبلاغ عنهما ليتبين بعد ذلك أنهما مدفوعتان من الحزب الوطنى. والواقعة الثانية قام فيها أحد السلفيين بتعليق اللافتة إياها التى تميز بين المصوتين بنعم والمصوتين بلا فهاجمه الناس وأجبروه على نزع اللافتة وقد بدت عليه فيما أظن علامات خزى وخجل. عندما تأملت فى هاتين الواقعتين اللتين تشيران إلى تلاقى مصالح قوى الفساد والتشدد تبينت أى عبقرية انطوى عليها المؤلف وحيد حامد عندما جسد هذا التلاقى بكل وضوح فى فيلم «طيور الظلام». ففى أحد مشاهد هذا الفيلم يقول المحامى الفاسد لصديقه الإسلامى الانتهازى «أنت فى نعيم بسببى» فيرد عليه صاحبه بالجملة نفسها «وأنت فى نعيم بسببى». 

إن اللعب على أوتار الفتنة الطائفية لتحقيق مآرب سياسية هو ميراث تركه لنا نظام جثم على أنفاسنا طيلة واحد وأربعين عاما، وليس لدى وهم فى أننا سوف نتخلص من تبعات هذا الميراث بين عشية وضحاها، فكما استخدم النظام السابق فزاعة الإسلاميين لتأجيل الديمقراطية ها هم الإسلاميون يستخدمون فزاعة المادة الثانية للقفز على الديمقراطية. لكن الشىء الذى يطمئن أنه فى الوقت الذى ينفث فيه الحاقدون نيران فتنتهم فإن المواطنين الشرفاء سرعان ما يهيلون عليها التراب لإطفائها، وبهذا وحده يمكن أن نضع الأساس السليم لمصر جديدة هى التى فى خاطرى وخاطرك. 

Friday, January 13, 2012

لسنا كفار قريش.. ولستم أصحاب النبى



  كان الخروج المفاجئ للتيارات الإسلامية بعد ثورة 25 يناير فى الشارع المصرى بهذه الكثافة وهذا الإلحاح الإعلامى المنظم ظاهرة تحتاج إلى وقفة صادقة خلال أسبوعين فقط وليس أكثر، كان الوجود الإسلامى فى الإعلام المصرى حدثا فريدا غير مسبوق انطلقت جماعة الإخوان المسلمين تستعرض قدراتها وتحدياتها فى الاستفتاء على الدستور ثم كان الإفراج عن عبود الزمر وطارق الزمر. وهذه الزفة الإعلامية التى واكبت خروجهما من السجن..كانت مظاهرة الجماعة الإسلامية تطالب بالإفراج عن الشيخ عمر عبدالرحمن من سجون أمريكا ثم كان الحشد الإعلامى الرهيب لجماعة السلفيين وخطب رموزها واستيلاء دعاتها على مساجد الاسكندرية وطرد أئمة وزارة الأوقاف، ثم كانت ندوات الدعاة الشباب على الشاشات وفى الجامعات.. حشد دينى واكبته تصريحات وأقوال جانبتها الحكمة والصواب فى حالات كثيرة مثل غزوة الصناديق والدولة الدينية إذا خرج الحاكم على الملة وقتل الحاكم وتطبيق الشريعة بالقوة وهذا الاندفاع الغريب نحو الأضواء من كل التيارات الإسلامية.

من منطلق التقدير والحرص على صورة هذه التيارات تبدو أمامى بعض الملاحظات:
●أن هذا الاندفاع الكمى والنوعى من التيارات الإسلامية فى الشارع المصرى قد خلق حالة من الخوف والفزع لدى المواطنين خاصة أنه لم يكن حشدا دينيا يهدف إلى الدعوة بل كان حشدا سياسيا وإن ارتدى عباءة الإسلام.. شعر الكثير من المصريين أننا أمام فتح مصر فى الألفية الثالثة ونسى القادمون أن المصريين ليسوا كفار قريش وأن القادمين ليسوا أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وإذا كنا قد كرهنا فى النظام السابق لغة التعالى والاستخفاف بالشعب فقد شعرنا بهذا الأسلوب وبلغة التعالى نفسها فى هؤلاء القادمين لتطبيق الشريعة وتناسوا قول الخالق سبحانه وتعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن».. فلم يكن فى الطرح قدر من الحكمة ولم يكن فى الجدل ما هو حسن.. كانت أحاديث الخارجين من السجون تعيد للأذهان قصص القتل والردع والعنف وهى أشياء كانت الذاكرة المصرية قد نسيتها منذ تسعينيات القرن الماضى.. ولم يكن غريبا فى هذا السياق أن ينفذ بعض السلفيين حكما يتناقص تماما مع تعاليم الإسلام ويقطعون أذن رجل مسيحى فى قنا فى سلوك همجى متخلف يتعارض تماما مع سماحة الإسلام ورحمته.
لاشك أن كل هذه المؤشرات تركت حالة من الخوف فى كل بيت مصرى المسلمون قبل الأقباط وتركت سؤالا حائرا لماذا كل هذه الحشود وهل تخلصنا من سطوة الاستبداد السياسى لنواجه هذا الخطر القادم الذى يحمل راية دين نؤمن به ونعتز بتعاليمه وسماحته وثوابته.

● وجد المصريون أنفسهم بعد الثورة ومن خلال هذا الحشد أمام أكثر من دين وأكثر من شريعة وأكثر من جماعة.. ظهر الإخوان المسلمون فى صورة لم نعهدها فيهم من قبل خاصة وهم يربطون بين الإسلام والموافقة على التعديلات الدستورية «بنعم» كان خلطا غريبا من الجماعة.. وكانت أحاديث المسئولين فيها عن نتائج الاستفتاء لا تخلو من الزهو والتعالى لتحقيق هذا الإنجاز وهذا يتنافى تماما مع طبيعة الجماعة وما شهدته الثورة من تلاحم حميد بين جموع الشعب باختلاف توجهاته..
وكان رفض مكتب الإرشاد المشاركة فى مؤتمر شباب الإخوان موقفا غير واضح ولا يتناسب مع رحابة فكر وسماحة ثوابت الإخوان دينيا وإنسانيا.. لقد تابعت ما دار من مناقشات بين شباب الإخوان فى مؤتمرهم وكان حوارا ممتعا حول الأحزاب وما حدث بعد ثورة 25 يناير ولمست فيهم روحا شابه متفتحة تدعو للتسامح والحوار وفتح الأبواب لهواء نقى جديد.. كان ينبغى أن يحتضن المسئولون فى الإخوان أحلام شباب واعد وإن كنت أرى أن الفرصة ما زالت قائمة وأن الحوار مع المستقبل ضرورة لا غنى عنها.

كنا قد قرأنا كثيرا عن مراجعات فكر ومواقف ورؤى الجماعات الإسلامية طوال السنوات الماضية حول تطبيق الشريعة وتكفير المجتمع وقضايا مثل القتل والقصاص وأعلنت هذه الجماعات أنها تراجعت عن الكثير من هذه الأفكار ولكن الغريب فى الأمر أن هذه الجماعات أطلت على شاشات الفضائيات وفى الصحف ووسائل الإعلام لتعيد مرة أخرى طرح هذه الأفكار ومنها قتل الحاكم وفرض تطبيق الشريعة ولا شك أن مثل هذا الطرح أفقد هذه الجماعات فى الأسابيع الأخيرة تعاطفا كبيرا فى الشارع المصرى خاصة وأن رموز هذه الجماعات قضوا سنوات طويلة فى السجون ومع ثورة 25 يناير والمناخ الجديد الذى يحلم به المصريون كان ينبغى أن يتسم موقف هذه الجماعات بقدر من التوازن والحكمة.. أن الحديث مرة أخرى عن العنف وتطبيق الشريعة والحوار مع الآخر والموقف من شركاء الوطن والجزية وتوزيع المناصب لغير المسلمين.. هذه القضايا تحتاج إلى أصوات عاقلة وأفكار تدرك خطورة اللحظة التى يعيشها المصريون الآن.. نريد طرحا يجمع شتات هذا الوطن ولا يفرق صفوفه.. نريد أفكارا تغرس الأمن والطمأنينة بين الناس أما أساليب التخويف والفزع التى يمارسها البعض فسوف تصل بنا إلى حالة لا نريدها من عدم الاستقرار.

عندما يتحدث بعض رموز هذه الجماعات عن تطبيق الحدود ويمارسها البعض فى رجل مسيحى فى قنا.. وعندما يقف أحد المشايخ الأجلاء ويتحدث عن غزوة الصناديق وكأنه يتحدث عن كفار قريش.. هذه الأساليب سوف تأتى بنتائج سلبية فى رد فعل المواطن المصرى مسلما كان أم مسيحيا الا إذا كانت هذه الجماعات تسعى بالفعل إلى إيجاد حالة من الخوف بين المواطنين.. إن أهم شىء كنا نسعى إليه بعد ثورة 25 يناير هو الاستقرار وتأمين المواطنين واستمرار حالة التواصل والمودة التى سادت حياتنا طوال أيام الثورة لقد ساهم الحشد الإعلامى الذى طارد الناس طوال الأسابيع الأخيرة إلى ردود أفعال متباينة ما بين الخوف والسؤال ومحاولة الفهم ولكن السمة الغالبة كانت استنكار هذا التكثيف الإعلامى الرهيب وما ترتب عليه من سلبيات خاصة فى أقوال ومواقف غير مسئولة صدرت عن بعض رموز هذه التيارات ولا أدرى هل هو خطأ الإعلام أم مسئولية هذه الرموز وسعيها بإلحاح إلى الأضواء حتى ولو كان ذلك سببا فى تقديم صورة غير حميدة عن هذه التيارات.

● إن هذه الحشود التى حملت راية الإسلام من خرجوا من السجون وتم الإفراج عنهم من المعتقلين قد تركوا الكثير من الظلال حول حالات انقسام حادة بين أفكار لا ينبغى أن يكون الاختلاف بينها بهذه الدرجة وبهذه الحدة إلا إذا كانت بالفعل خلافات فى السياسة وليست فى الدين.. ماذا يفعل المواطن المصرى الأمى البسيط الآن أمام أطروحات متناقضة حول قضايا دينه وحياته.. نحن أمام الإخوان المسلمين.. وشباب الإخوان.. وحزب جديد للإخوان الحرية والعدالة.. وحزب الوسط والسلفيين.. والجهاد.. والجماعة الإسلامية.. أين مفاهيم الإسلام الحقيقية فى ذلك كله.. وهل نحن أمام جماعات وتيارات إسلامية تدعو إلى الله أم أمام كوادر وتجمعات سياسية تسعى إلى السلطة.. وكيف نفرق الدين من السياسة ونفصل بينهما.. وإذا أعلن رمز من رموز هذه الجماعات فتوى أو موقفا فهل هو موقف رجل سياسة أم فتوى رجل دين.

إن الأخطر من ذلك كله هو حالة الانقسام بين كل هذه الجماعات خاصة أنه لا يوجد الآن سقف يقف أحد عنده سواء فى معارك السياسة أو الصراعات الدينية.. نحن الآن أمام تداخل شديد فى الأفكار والمواقف بين دعوات سياسية ترتدى ثياب الدين وجماعات دينية تسعى لدور سياسى.. إن المواطن المصرى المأزوم فى حياته ورزقه وتعليم أبنائه ومرض زوجته وفقره وحاجته يقف الآن حائرا بين تيارات ملأت الساحة تتصارع على صوته ما بين الجهاد والإخوان والجماعة الإسلامية وحزب الوسط.. وكلها تحمل شعارات إسلامية لا ينبغى أن تكون هذه التقسيمات الحادة هى آخر المطاف لدين عظيم هو الإسلام ولا ينبغى أن تصل درجة التناقض والخلافات إلى هذه الحدة وهذا الرفض للآخر وإذا كانت هذه التيارات ترفض بعضها البعض فمتى ستقبل الحوار مع الآخر بل متى تقبل هذا الآخر فى دولة قام كل تراثها الفكرى والدينى والسياسى على التعددية والحوار ما بين مسلميها وأقباطها ومثقفيها وعلمائها ونخبتها الفكرية والدينية.

إذا كانت ثورة 25 يناير قد فتحت أمامنا أبواب الحرية والحوار والهواء النقى فيجب الا يكون ذلك بداية تقسيمات وصراعات وأهواء ومصالح.. إن هذا الاندفاع الذى شهدته مصر من القوى الإسلامية لا يتناسب مع وقار الأديان وسماحتها.. هل يعقل أن يقوم ائمة السلفية فى الإسكندرية بطرد ائمة الأوقاف من المساجد ويحتلون منابرها.. وهل يعقل أن يقف عالم شهير ويتحدث عن نتائج الاستفتاء على مواد الدستور ويسمى النتائج بغزوة الصناديق وما هذا الرعب الذى جاء فى أحاديث هؤلاء عن العنف وتطبيق الشريعة وقتل الحكام.. إن الأمر يتطلب قدرا من الحكمة واليقظة لأناس يدعون إلى الله ويحملون رسالة دين عظيم قام على التسامح والرحمة وهم يعلمون أن نصف المجتمع من الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون.
ووسط هذا المشهد الغريب يغيب دور الأزهر الشريف بعلمائه ومشايخه ورموزه ونجد الساحة كلها مليئة بأصوات كثيرة والجميع يتحدث باسم الإسلام بينما صاحب الحق الأول والأخير وهو الأزهر الشريف لا يجد أحدا يسمع صوته.. وربما كان هذا هو السبب فى دعوة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر لتعديل قانون الأزهر ومطالبته العلماء والدعاة والائمة أن يتصدوا المشهد لتوضيح الوجه الحقيقى للإسلام بعيدا عن المبالغات ورفض الآخر.

لا يعقل أن تتصدر المشهد كل هذه التقسيمات والخلافات فى الرؤى والمواقف وهذه الحشود الغريبة بين التيارات الدينية المتعارضة بينما الأزهر الشريف معقل الإسلام وحصنه الحصين غائب تماما ولا يجد من يسمعه.. أين علماء الأزهر على شاشات التليفزيون والصحافة والإعلام إذا كان ذلك تقصيرا وإهمالا من الإعلام فهو جريمة وإذا كان رفضا من العلماء فهو إخلال بالمسئولية.
إن أخطر ما واجهته مصر بعد الثورة هو هذه التقسيمات الغريبة بين من قالوا لا ومن قالوا نعم حول مواد الدستور تم كانت الخلافات بين من قالوا نعم من التيارات الدينية التى تحمل راية الإسلام.

بقيت بعد ذلك ملاحظة أخيرة تتعلق بما يرتديه علماؤنا من الأزياء وأنا أتصور أن الزى الأزهرى العريق يجب أن يكون وساما مصريا لكل من حمل راية الإسلام وجعل من نفسه داعيا.. هذا الزى الوقور يحتل مكانة خاصة فى كل دول العالم وللأسف الشديد هناك ملابس غريبة على أذواق المصريين يرتديها علماؤنا من الشيوخ والشباب ولكن زى الأزهر له بريق خاص.
أما شبابنا من الدعاة على الفضائيات فهم فى حاجة إلى أزياء أكثر وقارا.. نريد وسطية الأزهر فى فكرة وسماحته وفى حجته ووقاره وفى ملابس الائمة والدعاة.
وقبل هذا كله لا نريد هذا الانقسام بين علمائنا ومشايخنا الأجلاء.. ونريد خطابا دينيا متجانسا لا يختلف حول الثوابت ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

Friday, January 6, 2012

أنا غير متفائل.. ولا أدعو للتشاؤم


علي قناة "سي تي في" القبطية، وفي برنامج "في النور" للمذيعة اللامعة "دينا عبد الكريم" والممثل الموهوب الأستاذ "إيهاب".. وفي نهاية إحدي حلقات البرنامج، طلبت المذيعة من المشاهدين الذين يُراسلون البرنامج أن تكون إيميلاتهم ورسائلهم متفائلة، ولا داعي لنبرة التشاؤم السائدة في أغلب الرسائل والآراء من المشاهدين.. استغربت من طلب المذيعة اللامعة، وأخذت أبحث في الوضع الحالي لبلدنا "مصر"، خاصة بعد ثورة 25 يناير البيضاء، والتي كُنا في قمة التفاؤل بعد نجاحها الكبير ومكاسبها العظيمة. ولكن ومع توالي الأحداث شبه اليومية غير السعيدة من هنا وهناك في كل بقاع "مصر" المحروسة، بدأت تدب في قلوبنا وقلوب كل المصريين حالة من الخوف والقلق على مستقبل بلادنا، والصورة تزداد قتامة يومًا بعد يوم. وأخذت أتساءل.. بأمارة إيه نتفائل؟؟

بأمارة.. التعدي بالرصاص الحي والأر بي جي على رهبان عُزَّل يعبدون الله في الصحراء في دير الأنبا "بيشوي"، وهدم السور الذي بنوه لحمايتهم، ولم نسمع عن أي عقاب للمعتدين!! 

بأمارة .. حرق وهدم كنيسة "صول" بـ"أطفيح" بمحافظة "حلوان"، والعبث بأجساد القديسين بطريقة غير مسبوقة في تاريخ "مصر". وبالرغم من اقتراب المجلس العسكري- مشكورًا- في الانتهاء من أعمال البناء، ولكن حتى الآن لم نسمع إنه تم محاكمة المجرمين المعتدين!!

بأمارة.. التعدي أيضًا- وبالرصاص الحي- على أقباط "المقطم"، وحصيلة التعدي الكثير من الشهداء والجرحي، وتخريب بيوتهم لأنهم أرادوا أن يشاركوا إخوتهم في مظاهرات "ماسبيرو"! ده غير التعدي علي شباب "ماسبيرو" في وقفتهم السلمية ومطالبهم المشروعة. ولم نسمع أيضًا أي قبض على أو عقاب للمعتدين!! 

بأمارة.. إقامة الحد بقطع أذن المواطن القبطي بـ"قنا"، وبعدها أُجبر على التصالح من خلال جلسات المصاطب العرفية! ولا العثور على جثة لأب كاهن مذبوحًًا بـ"أسيوط"، ولا قتل مواطنة قبطية بـ"منفلوط" لأنها رفضت التجاوب مع قاتلها في معاكساته لها؟!!!

بأمارة.. التهديدات للقبطيات غير المحجبات، وإثارة الرعب في قلوب كل المصريات غير المحجبات، والهلع للجميع من أن تتحوَّل "مصر" إلي "طالبان" أو "إيران" جديدة!! 

بأمارة.. الفوضى في الشارع المصري، وغياب الأمن، وكثرة البلطجية في كل مكان، وانتشار مقولة "اخدم نفسك بنفسك".. أي كل واحد ياخذ باله ويحمي نفسه بنفسه، كأننا رجعنا لعصر الغاب!!

بأمارة.. ما رأيناه مؤخرًا في المشهد.. الكارثة بإستاد "القاهرة" قبل نهاية مباراة الزمالك مع الأفريقي التونسي، والفوضى العارمة، والتخريب العلني داخل الإستاد التي شاهدها للأسف كل العالم!!

بأمارة.. الأخبار التي تصل إلينا كل يوم من خلال الفضائيات والإنترنت، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:
- هولاكو بقرية البدرمان بالمنيا يحتجز أكثر من 23 قبطي كرهائن، ووضع أسرهم وأطفالهم تحت الحراسة حتى يتنازلوا عن البلاغات المقدَّمة ضده. 
- أكثر من 3000 جهادي يعودون إلي مصر من أفغانستان والشيشان والبوسنة والصومال وإيران.
- الجماعة السلفية تطالب بإلغاء السجون وتطبيق الشريعة الإسلامية مثل السعودية تمامًا
- المطالبة بتحطيم الآثار الفرعونية لأنها أصنام.
- هجوم من البلطجية بقنابل مولوتوف على منطقة "الشرابية". 
وغيره الكثير والكثير.. ثم نقول: "لازم نتفائل"!!! الصورة أبدًا أبدًا لا تدعو للتفاؤل..

وأيضًا أنا لا أدعو للتشاؤم.. ويكون تفاؤلنا ورجائنا فقط في وعود إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح له كل المجد، عندما قال لنا: "في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم". وأن "لا تخف لأني أنا معك"، و"الرب يدافع عنكم وأنتم صامتون".

وأبدًا لا أدعو للتشاؤم عندما نري ونسمع حبيب قلوبنا، ذهبي الفم الجديد، خليفة مار مرقس الرسول، قداسة البابا المعظم الأنبا "شنودة الثالث"- أدام لنا الرب في حياته- وهو يبث في قلوبنا دائمًا الاطمئنان والسلام والأمان في وعود رب المجد، عندما يعلِّمنا دائمًا أن "ربنا موجود"، و"كله للخير"، و"مسيرها تنتهي"..