Friday, July 8, 2011

قبطى.. لا مؤاخذة!



نحذر من أن تعود «ريما» لعادتها القديمة، فننسى دروس ما حدث ولا نتذكرها إلا عندما نفاجأ بأحداث مؤسفة أخرى تعكر صفو الوحدة الوطنية لا قدر الله.

ولا يهمنى الآن اللت والعجن فى حكاية الشخص المضطرب نفسياً، وما إذا كان حادثاً فردياً.. فهذه قصة أصبحت ممجوجة وسخيفة.. ومن قبيل الضحك على الذقون أن نأخذها مأخذ الجد.

المهم الآن حقاً هو أن نعترف بأن هناك مشكلة فعلية، وأن التلكؤ فى حل هذه المشاكل حلاً جذرياً وعاقلاً وعادلاً هو السبب الرئيسى لوقوع هذه الحوادث بين الحين والآخر بشكل يهدد السلم الأهلى والأمن القومى ويفتح باب جهنم أمام تنطع الأمريكان، وغير الأمريكان، على شؤوننا الداخلية.

نعم.. يجب أن نعترف بأن هناك مناخاً من التعصب والتطرف هو الذى يتيح تحول «الحبة» إلى «قبة»، وتفريخ الأزمات والصدامات الطائفية بلا توقف.

يجب أن نعترف أن منابع هذا التعصب وذاك التطرف عميقة الجذور، ومتشعبة الروافد، تتغلغل فى التعليم والإعلام والثقافة والمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية.

يجب أن نعترف أن تجفيف هذه المنابع يتطلب «أعمالاً» لا «أقوالاً»، وأن الأعمال قليلة جداً بينما الأقوال أكثر من الهم على القلب.

يجب أن نعترف أن هناك -إلى جانب مناخ التعصب والتطرف- مشكلة قبطية، وهذه المشكلة ليست بنت اليوم، وإنما هى نتيجة تراكمات تاريخية قديمة تعود إلى أيام الاحتلال العثمانى وفرماناته العنصرية التى تضع قيوداً سخيفة على بناء دور العبادة للأقباط، كما تخلق أوضاعاً تمييزية ضدهم.

ولا يوجد مبرر لاستمرار هذا التراث التركى، أو أن تتحمل الأجيال الحالية وزره بعد دخولنا القرن الحادى والعشرين.

ولا يكفى الاعتراف بذلك، بل يجب اتخاذ إجراءات عملية سريعة وحاسمة للتخلص من هذا الإرث العنصرى والطائفى.

وهذه الإجراءات العملية تبدأ بنسف الخط الهمايونى الذى ما زال يحكم عملية بناء الكنائس واستبداله بقانون ديمقراطى موحد لبناء دور العبادة، ينظم ممارسة هذا الحق ولا يعرقله أو يضع العقبات أمامه.

وتشمل هذه الإجراءات العمل على الاحتكام إلى مبدأ «المواطنة» فى تولى المناصب العامة، بصرف النظر عن الدين أو اللون أو الجنس، و«تجريم» أى مخالفة بهذا الشأن، فالمواطنة ليست شعارات وإنما ممارسة، وتقنين هذه الممارسة هو الذى سيؤثِّم أى افتئات عليها لأى سبب من الأسباب.

بيد أن هذه الممارسة أوسع من القوانين فهى تتطلب إعادة نظر شاملة فى مناهج التعليم والأنشطة الدينية والفتاوى، بما يضمن تعزيز الفهم المشترك لأبناء الوطن الواحد، ويستأصل أى صورة من صور بث الكراهية أو الاغتيال المعنوى لبعضهم البعض بسبب الاختلاف فى العقيدة.

وعلى وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة فى ذلك، وأمامها جدول أعمال كبير -لم تنجز عشر معشاره بعد- وليس من المبالغة فى شىء أن نقول إن «ثورة» بهذا الصدد فى الإعلام يجب إطلاق شرارتها اليوم قبل الغد، وهى ثورة لا يجب تشويهها مسبقاً بحصرها فى دائرة الشعارات والأغانى والأهازيج العاطفية السطحية التى تعتبر أكبر إنجازاتها نشر صورة الهلال مع الصليب أو صورة شيخ مع قسيس.

ومن المثير للاشمئزاز والاستياء أن نستعيد سخافات كثيرة حدثت فى الإعلام من قبل، منها على سبيل المثال أن يظهر على شاشة التليفزيون شخص يتحدث ببلاهة قائلاً: «قبطى.. لا مؤاخذة!».

هذه الغثاثة لا تقل خطراً عن صور مقابلة للتعصب القبطى وصلت إلى حد رفع قلة من المتطرفين الأقباط علماً مختلفاً عن العلم المصرى، أو رفع شعارات مهووسة تستجير بالأمريكان.

وليس المهم الآن التوقف أمام ظاهر هذه السلبيات.

الأهم هو تجفيف المستنقعات التى أفرزتها وجعلتها تظهر وتنتشر فى بلد كان مهداً للحضارة.

■ ■ ■                                      

هذه الكلمات السابقة -عزيزى القارئ- ليست تعليقاً على كارثة نجع حمادى التى وقعت عشية عيد الميلاد فى السادس من يناير ٢٠١٠، وإنما كتبتها بعنوان «قبطى.. لا مؤاخذة» بجريدة «الجمهورية» يوم ٢٤ أبريل عام ٢٠٠٦، أى منذ ما يقرب من أربع سنوات فى أعقاب الاعتداء على كنيستين بالإسكندرية!! وعندما وقعت فى يدى بالصدفة وأعدت قراءتها مؤخراً تخيلت أنى كتبتها خصيصاً بمناسبة كارثة نجع حمادى! والأغرب أنى وجدتها صالحة للتعامل مع هذه المصيبة!

وهذا معناه أننا لم نتحرك خطوة واحدة للأمام!!

فخلال هذه السنوات وقعت أحداث طائفية حذرت -وحذر غيرى- من أنها ستقع لا محالة إذا لم تتحرك الحكومة والمجتمع.

لكن الشهور والسنين مرت ووقعت الفتنة واحدة بعد أخرى دون أن نتعلم ودون أن نتحرك.

وها هى أحداث نجع حمادى تقع حاملة فى طياتها وحشية أكبر ومخاطر أفدح.

والأعجب أن نفس تشخيص فتن الأمس ما زال هو نفسه تشخيص فتنة اليوم، كما أن روشتة العلاج الموصوفة فى السابق هى ذاتها المطلوبة فى الحاضر.

وهذا معناه أنه ليس هناك فى الأمر «مفاجأة» من أى نوع، وأن من يدعى أنه قد «فوجئ» باندلاع الفتنة الطائفية فى نجع حمادى يكذب ويستخف بذكاء المصريين.

فمن المسؤول عن ترك هذه القنابل الموقوتة دون نزع فتيل اشتعالها طيلة هذه السنوات؟!

المسؤول هو كل من ترك المستنقعات التى تنمو وتترعرع بها طحالب التطرف والتعصب والإرهاب على حالها، أو ما هو أسوأ من ذلك أنه أعطاها الفرصة لتستفحل وتتفاقم وتمتد بطول البلاد وعرضها.

المسؤول هو كل من بارك سياسة التسويات العرفية وشارك فى تعطيل تنفيذ القانون بحسم وركنه على الرف فى كل الأحداث الطائفية السابقة.

المسؤول هو الحكومة التى لم تقم بواجباتها التى أشرنا إلى بعضها فى السطور السابقة، واكتفت بالتعامل مع هذه المسألة الخطيرة كمجرد «ملف أمنى».

المسؤول هو المجتمع المدنى الذى لم يقم بدوره وأخفق فى حشد القدر الكافى من الضغوط على الحكومة لإيقاظها من سباتها وغفلتها وبيروقراطيتها وسوء تقديرها حيناً وسوء نواياها أحياناً.

المسؤول هو انحطاط النخبة من جراء عقود طويلة من مصادرة الحريات والوصاية على الفكر وتزييف الوعى وتكميم الأفواه بالتزامن مع أوضاع اقتصادية مشوهة كرست نمطاً من أنماط «رأسمالية المحاسيب» أو ما يسمى بـ«الرأسمالية الرثة» التى تقوم على تشجيع الاحتكار والمضاربة والأنشطة الطفيلية، وغنى عن البيان أن مثل هذه البنية التحتية العفنة لا يمكن أن تنتج سوى بنية فوقية متخلفة طاردة للعقلانية والتنوير وقيم التسامح من أجل تفريغ الفضاء العام لمؤسسة الخرافة والفكر الظلامى، والتعصب والانحلال اللذين هما وجهان لعملة واحدة.

وجريمة نجع حمادى -وما سبقها من جرائم طائفية- هى الابنة الشرعية لثقافة عصور الانحطاط، وفاتورة حساب التقاعس عن بناء الدولة المدنية الحديثة، وكان ثمن هذا التقاعس ذلك المسخ الشائه الذى يملك جسم دولة المماليك ورأس الدولة الدينية!

■ ■ ■

فهل آن الأوان لركوب قطار الحداثة.. أم أننا سنعيد نشر «بكائية» الإسكندرية و«مرثية» نجع حمادى بعد سنوات عجاف أخرى؟!

No comments:

Post a Comment