Friday, July 29, 2011

فلسفة التسامح فى الإسلام




كلنا يعلم أن الإسلام دين التسامح، ودائمًا نتفوه بهذه الكلمة فى بيوتنا ومساجدنا وقنواتنا الفضائية، لكن لا أحد يطبق هذا الخلق بمعناه الصحيح.. فمثلاً الأخ لا ينسى لأخيه الإساءة والأم لا تنسى لأبنائها العقوق والكويتيون لا ينسون ما فعله صدام والجيش العراقى بهم والسعوديون لا ينسون ما فعله محمد على بهم.. وإذا قلت لأحد سامح من ظلمك فإن الله غفور رحيم يقول لك: "إليك عنى فإنك لا تعلم ماذا فعل بى وكم ظلمنى" ويظل المظلوم يدعو بكل ما أوتى من قوة على ظالمه بالشلل والجذام والبرص والعمى وغيره...

وإذا تتبعنا تاريخ التسامح فى الإسلام سنجد أمثلة رائعة فى القديم والحديث فمثلا إن أول قصة فى التسامح هى قصة ابنى آدم قابيل وهابيل؛ فهابيل سامح قابيل وقال له:" لَئِن بَسَطتَ إِلَى يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِى إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" وسيدنا يعقوب عليه السلام إذا استعرضنا قصته سنجد أن أبناءه تآمروا لقتل أحب أبنائه إليه وهو يوسف عليه السلام ثم حرموه منه سنوات طويلة وظل يبكى حتى فقد بصره، ليس هذا فحسب بل عقوه وسلقوه بألسنتهم قائلين له:"تالله إنك لفى ضلالك القديم"، وهو له عليهم حق الأبوة أولاً وحق النبوة ثانيًا وهم يعلمون أنه نبى لا ينطق عن الهوى ويرى ما لا يرون فكان يجب عليهم تصديقه عندما قال لهم:"إنى لأجد ريح يوسف" فاتهامهم له بأنه رجل عجوز مخرف ذنب عظيم لا يليق بحق الأب الرسول، ومن جهة أخرى يوسف عليه السلام ماذا كان إحساسه عندما ألقى به إخوته فى البئر المظلم عاريًا بلا قميص يستره بعد أن أخذوا القميص ولطخوه بدم كذب ثم الرق والعبودية التى لاحقته سنوات طويلة وهو ابن الكريم وحرمانه من حنان الأب وهو فى قيد الحياة ثم إلقائه فى السجن.
ويقال إن يوسف عليه السلام كان يبكى بكاءً مريرًا فى السجن لفراق والده بكاءً لا ينقطع ولا يتوقف حتى أنه صُنِّفَ من ضمن أشهر البكائين الخمسة فى التاريخ.

وأنا أعتقد أن أى أب آخر غير يعقوب لوكان أولاده فعلوا به ذلك لكان دعا عليهم وتبرأ منهم وربما طردهم خارج البيت وقال لهم: يا كذبة يا قتلة أنتم لستم أبنائى.. ولكنه لم يفعل ذلك بل على العكس قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ولم يتهمهم حتى بالكذب أو يشتمهم أو يسبهم ولما طالبوه بأن يسامحهم ويطلب لهم الغفران من الله قائلين:"يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين" وافق على الفور واستغفر لهم الله بمنتهى الحب والتسامح ولم يتردد لحظة ولم يتوقف لمعاتبتهم وتوبيخهم بكلمة "قال سوف استغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم".

ولا أعتقد أن أولادًا قد عقوا أباهم مثل هذا العقوق ومع ذلك سامحهم بمنتهى البساطة والسهولة والسرعة وأيضًا سيدنا يوسف عليه السلام حين طلب منه إخوته أن يسامحهم لم يقل لهم: قلبى وربى غاضبين عليكم ليوم الدين لقد فرقتم بينى وبين أبى وتعذبت بسببكم سنوات طويلة أنتم مجرمون لا تستحقون التسامح بل تستحقون الموت على فعلكم. وكان بإمكانه أن يسجنهم وينتقم منهم وهو ذو منصب كبير لكن الكريم إذا قدر عفا فقال لهم بمنتهى الحب: لا تثريب عليكم اليوم.

إذن العبرة ليست بحجم الظلم وشدته وقسوته ولكن العبرة بأن قلب المؤمن يتسع لكل الناس ولا يجتمع الإيمان وحب الانتقام فى قلب المؤمن فالتسامح يدل على صدق الإيمان ولنا فى ذلك أمثلة عديدة لكفار كان الغل والحقد وحب الانتقام يملأ صدورهم ولكن بعد إسلامهم تحولوا مائة وثمانين درجة إلى التسامح فهند بنت عتبة التى لاكت كبد حمزة بن عبد المطلب عم الرسول من شدة غيظها منه – حتى سميت آكلة الأكباد- ثم بعد الإسلام إذا بها لا تشعر بغل ولا غيظ من أحد ولم يكرهها المسلمون لفعلتها هذه..

فالأصل فى الإسلام أن المسلم لا يكره الظالم ولكن يكره أفعاله حتى إذا انتهت هذه الأفعال فإننا نعود إلى حبه، نحن لا نكره العاصى ولكن نكره معصيته وبدلا من أن ندعو عليه ندعو له بالهداية مثلما فعل الإمام أحمد بن حنبل حين شتمه رجل ذات يوم بينما كان يمشى فى الشارع ثم جاء فى اليوم التالى يعتذر له ويطلب منه أن يسامحه فقال له الإمام: منذ أن تركتنى وأنا أدعو لك بالهداية.. إذن استجاب الله دعاءه وهداه وهكذا استفاد الاثنان الأول كفاه الله شر الرجل حتى لا يؤذيه مرة أخرى والثانى اهتدى فنفع نفسه ودخل الجنة أليس هذا أفضل من أن يدعو عليه أن يخسف الله به الأرض مثلا أو غير ذلك من أساليب الدعاء؟ وحين جلده الجلاد بأمر الخليفة حتى تقطع لحمه وأغمى عليه وعانى آلامًا شديدة أقعدته عن الحركة ولم يستطع أن ينام على ظهره من شدة الألم لكن بمجرد أن طلب منه جلاده العفو سامحه فورًا دون تردد.. ما هذا القلب الطاهر النقى الذى لا يحمل غلاً لأحد.. وكذلك الإمام مالك حين عفا عن جلاده والخليفة الآمر بجلده رغم أن كتفه انخلع ولم يعد يستطع الصلاة إلا وذراعيه فى جنبيه.

وحتى قطز قاهر التتار سامح بيبرس حين قتله وقال:"قتلنى بيبرس وقد سامحته وأمر الناس أن يسمعوا له ويطيعوه من بعده وقال له إنه كان ينوى التنازل له عن العرش.. ما هذا القلب الصافى؟ يعفو عن قاتله ويتمنى له التوفيق فى منصبه الذى انتزعه منه بل ويأمر الناس بطاعته؟! وبيبرس يندم على قتله ويحتفظ بقميصه ويشمه ويبكى كلما تذكره؟ هذه هى نتيجة التسامح كما أنه لم يقتله إلا بعد الانتصار على التتار وبعد انتهاء المعركة حتى لا ينهزم المسلمون أمام التتار.. ما هذه الأخلاق الكريمة حتى فى القتل.. إن جرائم الأمس كان يشوبها شىء من الأخلاق والرحمة، أما اليوم فالجرائم تمتاز بأنها بشعة وخالية من الرحمة وتمتلئ بالحقد والتشفى.. وحتى الإمام على رضى الله عنه حين قتِل لم يكره قاتله بل أوصى أصحابه عليه وأمرهم ألا يمثلوا بجثته..

حين فجرت أمريكا قنبلة نجازاكى وهيروشيما ودمرت قريتين بأكملهما وتسببت فى تشوهات للأجنة وأمراض وإشعاع للجيل الجديد من اليابانيين ودمرت اقتصاد اليابان لم يمتلئ اليابانيون بالحقد والغل لأمريكا وحب الانتقام بل كان تفكيرهم إيجابيًا وقرروا الوقوف من جديد على أقدامهم وإصلاح ما تهدم والآن العلاقات اليابانية الأمريكية على ما يرام لم تنقطع رغم ما حدث فقد سامح اليابانيون ونسوا فلماذا لا يسامح الكويتيون العراقيين؟


وليعلم المسلم أنه بعفوه سوف يكتسب العزة من الله، وسوف يحترمه الجميع، ويعود إليه المسىء معتذرًا.

يقول تعالى: "ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم"، ويقول النبى صلى الله عليه وسلم: "مانَقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزَّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله".. وقال أيضا: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذى أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب".

أما من الناحية الصحية والنفسية: فهناك فوائد كثيرة لمن يعفو عن الناس.. يقول الدكتور إبراهيم الفقى أستاذ التنمية البشرية: إن الإسلام أمر بالتسامح وحث عليه حتى لا يظل المؤمن طوال حياته منشغلا بكيفية الانتقام من ظالمه فبدلا من أن يضيع عمره ويبدد طاقته فى الكراهية والعداء فليسامح حتى يتفرغ لمهمة أعظم بكثير هى الرسالة التى خلق من أجلها وتحقيق هدف وجوده فى الحياة وهى عبادة الله وإعمار الأرض وهذا لن يتحقق إذا كان الإنسان منشغلا طوال الوقت بكيفية الثأر والانتقام.. ونهاية الأمر سيموت الاثنان ولن يكسبا شيئا من العداوة أثناء حياتهما.

فالحياة فترة قصيرة يجب أن نعيشها فى هدوء وسلام ولا نضيعها فى حروب وعداوات مستمرة تجاه الآخرين.

وقد ذكرت مجلة (دراسات السعادة) أن هناك علاقات وثيقة بين التسامح والمغفرة من جهة وبين السعادة والرضا من جهة ثانية، فأجريت دراسة على عدد من الأشخاص وثبت أن أكثر الناس سعادة هم الذين يعفون عن الناس وأن أقل الناس إصابة بأمراض القلب هم أهل العفو.

وهكذا فلو أن الناس أخذت بالعفو لحافظوا على صحتهم وأنفسهم وأعصابهم.. ولكانوا فى غنىً عن كثير من الأمراض العصبية والنفسية من القلق والتوتر العصبى والنفسى.. وأمراض القلوب من الغل والحقد والحسد.. وكان المجتمع أسعد.

هذه هى فلسفة التسامح فى الإسلام فهل من 
متدبر؟؟؟

Friday, July 22, 2011

الرهان الأخير





كتب: طلعت سلامة


فى ربوع الحياة المصرية تتعلم التسامح فى ثنيات النسيج المجتمعى، ولا تشعر بالفرق بين مختلف الطوائف حتى الاختلاف المذهبى والدينى لا يؤثر على الحياة بين الأفراد. ففى بيت واحد نشأ أحمد وعيسى اختلفت المسميات كطبيعة الحال وظلت النشأة واحدة، وغابت يوما والدة أحمد فأرضعته أم عيسى فجمعهما معا رابط الأخوة الإنسانية، وقد لا تعرف الفرق بينهما، فالروابط الأسرية يستحيل معها التفريق فالبيت واحد, والطعام واحد, والأم واحدة لم يدرك الاثنان معا أى لون من ألوان التفرقة حتى مرضت أم عيسى يوماً فقامت الجارة والأخت لها بالرعاية والعناية حتى شفاها الله.. لم يعرف نسيج المجتمع المصرى المتشابك أى نوع من أنواع التفرقة يوما حتى ظن الناس بأن أحمد كان سيتزوج أخت عيسى لولا أنهما أصبحا أخوين من الرضاعة، وتوقفت الكلمات عن التعبير عن ذلك الحب لأنه أكبر من الكلمات. حتى ظهر فى المجتمع ما يسمى بالحزب الوطنى بفكره الجديد، وتناسى ذلك الحزب مؤسسه الفريد ومبادئ عشق الأوطان التى علمها للشباب، ومات شهيدا وضحى بحياته وشبابه من أجل قضية بلاده.. فاستحق المجد حيا وميتا حتى رثاه شوقى قائلا: 


يا صَبَّ مِصْرَ، ويا شهيد غرامِها 
هذا ثرى مصرٍ، فنمْ بأمان 
اخلَعْ على مصرٍ شبابَك عالياً 
والبِسْ شَبابَ الحُورِ والوِلْدان 
فلعلَّ مصراً من شبابِكَ تَرتدِى 
مجداً تتيهُ به على البلدان 


ولو أن هذا الزعيم العاشق لوطنه حيا بيننا لتبرأ من هؤلاء الخونة الذين باعوا ثرى هذا الوطن لأعدائه، وهو يحمل بين أحضانه رفات عشاقه وشهدائه.


فمصر بالنسبة لهم ليست وطناً بقدر ما هى البقرة الحلوب ينهلون من خيرها هم وأبناؤهم وأتباعهم إلى يوم القيامة حتى جاءت الثورة لتكون لهم بمثابة زلزال لتحطم وتقود عروشهم، ولكنهم تركوا لنا إرثاً ثقيلاً يتهادى على أكتاف المجتمع, وهوة سحيقة بين أطياف المجتمع وتهلهل النسيج وتمزقت أواصره، علمونا الحقد وغرسوا فينا الكره، وارتشفوا ذلك اللبن الذى شربه أحمد من ثدى أم أخيه عيسى، وكان عيسى يضحك سعيدا لأن أحمد يشاركه فى أمه وينام على صدرها ليجمع بينهما الحب. لم تعرف مصر لغة تفصل بين المسلم والمسيحى حتى أرساها الحزب الوطنى ونظامه وأسس معنى الطائفية، وغزاها بلبان المر ورعاها بطعم الصبر، وسقاها من زرنيخ مشاعرهم، ووضع لبنات الفرقة بين الأم وأبنائها، وراحت الأم تتبرأ من عيسى، وتنكر أحمد.


حتى جاء يوم الوحدة مع رياح الثورة، وراح عيسى ينظر إلى أشلاء أخيه أحمد تتطاير عبر رصاص حكومة الحزب الوطنى، ويصرخ عيسى، وهو يلملم بقايا أخاه المسلم، ويقسم بالإنجيل أنه لن ينام حتى يثأر لأخيه أحمد، وقامت تلك الشابة المسيحية لتصب الماء على الشاب المسلم ليتوضأ فى ميدان التحرير، فعادت الأم لتتذكر أبنائها، وتضمهم إلى حضنها فاتحة ذراعيها إلى غد جديد يملؤه الحب، ولكن هيهات هيهات فذيول الحزب الوطنى وأعوان النظام الفاسد وأعداء الوطن من الداخل والخارج يتربصون بمصر وبكل أبنائها لم يكتفوا بما نهلوه منها، فعز عليهم أن يتركوا المجتمع المصرى يلملم جراحه، ويربت على أكتاف أبنائه فأخذوا يشعلون نار الفتنة، وينفخون تحت الرماد فى نيران أصلوها وأوقدوا جذوتها منذ زمن بعيد، وأوهموا المسيحى بأن المسلم يحقد عليه ويضمر له الكره والحقد، وأصلوا فينا معنى الفتنة الطائفية، وهم الآن يلعبون على الرهان الأخير. 


فيا ساكنون تحت سماء هذا الوطن آن الأوان أن تتشابك الأيدى وتتحد القلوب والعقول لنبنى معا مستقبل أبنائنا، وننهض بمصرنا، ونقضى على براثن الفتنة من بيننا، وأن نتسامى بأرواحنا على خلافاتنا من أجل مصر، ومعا نقطع يد العابثين بوحدتنا والباحثين عن فرقتنا. 

Friday, July 15, 2011

الجريمة الطائفية




يصر فريق منا على التهوين من جريمة «نجع حمادى»، تأسيساً على أنها جريمة عادية، هى جريمة شرف وأهلنا فى الصعيد لا يتهاونون فى مسألة الشرف، هى كذلك جريمة ثأر، والأخذ بالثأر أمر عادى فى الصعيد وكذلك مسائل الشرف، وهكذا يعطى بعض «المستنيرين» انطباعاً بأن جرائم الشرف والثأر أمور يجب أن تكون عادية ومقبولة، وعلى الأقل يجب تفهمها ومن ثم التسامح معها والتهوين من خطورتها.

وبغض النظر عن هذا الجانب فإن جريمة «نجع حمادى» هى فى النهاية، جريمة طائفية، بكل المقاييس.. صحيح أن هناك مجرماً اغتصب طفلة، وهى جريمة بشعة، وذلك المجرم مسيحى الديانة والطفلة مسلمة.. والمجرم ينبغى أن يحاسب بالقانون وأن يحاكم، والقاضى الطبيعى هو الذى يقر العقوبة، لكن الذين قرروا الثأر من المجرم تحركوا بدوافع طائفية محضة،

وذلك واضح فى التخطيط والتنفيذ، فقد حددوا يوم عيد الميلاد المجيد، الذى يحتفل به أقباط مصر، موعداً لتنفيذ العملية أو ساعة الصفر، هم كذلك قرروا أن يكون التنفيذ لحظة خروج المسيحيين من الصلاة، وأن يكون القتل عشوائياً بين المسيحيين عموماً، وليس الفرد المجرم بعينه، ناهيك عن أن يكون المستهدف هو رأس الكنيسة فى تلك المدينة، باختصار قرر «الثائرون للشرف» أن الذى اغتصب الطفلة يمثل عموم المسيحيين والكنيسة ورأس الكنيسة فى المنطقة وأنهم جميعاً يجب أن يحاسبوا على تلك الجريمة ويدفعوا ثمنها.

إذا فهمنا الجريمة على أنها مسألة ثأر وشرف أو أنها جريمة طائفية، ففى الحالتين هى انتهاك لمبدأ القانون، ومفهوم الدولة التى يجب أن تقوم على تنفيذ القانون، أما أن يأخذ فرد أو مجموعة بأيديهم وضع القانون وتنفيذه فتلك حالة بدائية يجب التصدى لها ومقاومتها، وحيث إنى ممن يرونها جريمة طائفية بامتياز فيجب أن نناقش بصراحة هذا النوع من الجرائم التى تزداد وتيرتها وتتفاقم خطورتها، شهرا بعد شهر، وأنا ممن يقولون إن هذه الجرائم فى طريقها إلى الازدياد والاتساع.

نحن فى مجتمع شاع فيه مناخ ثقافى وسياسى يتنفس الطائفية والأصولية، فقد أزحنا الهوية الوطنية، رغم أننا نتغنى بمصر مع كل مباراة كرة قدم، ورغم أن مفهوم المواطنة صار مادة أساسية فى الدستور، ونحن أسقطنا الهوية القومية يأساً أو عجزاً وربما فشلا، ولم نحاول بناء هوية إنسانية بالمعنى الواسع للكلمة، وهكذا لم يبق للفرد منا سوى الهوية الدينية،

فإذا كان المسلم فى مواجهة المسيحى، يبرز البعد الطائفى، وإذا كان المسلم فى مواجهة المسلم، ظهر التصنيف المذهبى «سنى/ شيعى»- أو التصنيف الأيديولوجى.. سلفى أو أصولى فى مواجهة العلمانى «الكافر»، وإن كان الأمر يتعلق بالبهائية ظهرت مقولات الإسلام والمسيحية معاً ضد الأديان غير السماوية وأنه لا مكان لغير الأديان السماوية على أرض مصر!

فى مثل هذا المناخ يمكن أن ينفجر المجتمع بسهولة إذا غازل شاب فتاة وتبين أنه ينتمى إلى دين غير دينها، طبعاً لا غضاضة فى أن يتحرش بها أو حتى يغتصبها إذا كانا ينتميان إلى دين واحد. ساعتها تظهر مفاهيم مثل الستر وتجنب الفضيحة للتغطية على ما يقع من الفتى تجاه الفتاة، حتى لو كان هتك عرض، بالمعنى المباشر الصريح، ولدينا تراث هائل يسوغ ذلك ويمرره بسهولة.

سوف يبقى الاحتدام الطائفى قائماً والصدام متوقعاً بين لحظة وأخرى، طالما بقيت الهوية الدينية تطغى وتسحق الهويات الأخرى، بدءاً بالهوية الإنسانية، التى تحترم إنسانية الإنسان فى المقام الأول، وتقيم الاعتبار لها بغض النظر عن أى بعد آخر من دين وعرق أو جنس أو حتى ثروة.

المعروف أن أى هوية إذا تضخمت وطغت على ما عداها فإنها تؤدى إلى كارثة كبرى، فى العصور الوسطى حين طغت الهوية الدينية ظهرت الحروب الصليبية، وفى ألمانيا عندما طغت الهوية الوطنية برزت النازية ومعها الحرب العالمية الثانية.. وهكذا، وفى حالتنا نحن علينا العمل على الحد من تضخم الهوية الدينية- الطائفية- وذلك بالتأكيد على مفهوم سيادة القانون وبناء الدولة المدنية.. دولة الحق والواجب.. دولة المواطنة التى لا تميز بين مواطن وآخر وفق ديانته أو طبقته وما لديه من ثروة، فضلاً عن الجنس ذكراً أو أنثى، دولة يصبح فيها الإنسان هو القيمة الكبرى، التى يجب الحفاظ عليها، وهذا مالا نقوم به، فلا إعمال للقانون، ولا تأكيد على مفهوم الدولة المدنية،

والدليل أن كل الجرائم الطائفية يتم التعامل معها بتبويس الأكتاف وجلسات الصلح العرفى، أو ما نسميه «قعدة عرب» أو «قعدة المصاطب».. ولا نعرف حالة واحدة منذ واقعة الخانكة سنة ١٩٧٢، سارت حتى نهايتها وفق القانون المدنى والقانون الجنائى، وفصل فيها القضاء فصلاً نهائياً باتا، والحاصل أننا نهرول سريعاً نحو اللادولة، بل إن المجتمع نفسه يتفكك ويتفتت مع كل حدث عابر.

تحجيم الهوية الدينية وردها إلى حجمها الطبيعى لا يعنى بأى حال المساس بالدين أو بالشعور الدينى للمواطنين، بل إنه حماية للدين ذاته، وما جرى فى «نجع حمادى» هو فى أحد جوانبه إساءة للدين الإسلامى، وإساءة لعموم المسلمين- ناهيك عن أنه إساءة لمعانى المصرية الحقة، فما يقع من جرائم طائفية إساءة وأمر مشين لنا جميعاً كمصريين، سواء كنا مسلمين أو مسيحيين.. وهو أمر غريب أن يحدث فى مصر وبين المصريين.

فى سنوات الإسلام الأولى، وحين ضاقت السبل بالمسلمين الأوائل فى مكة، وتعرضوا لاضهاد شديد، نصح رسول الله أتباعه وصحابته بأن يهاجروا إلى الحبشة، حيث ملكها الذى «لا يظلم عنده أحد»، وعاش هؤلاء الصحابة سنوات فى كنف ملك الحبشة المسيحى، ولم يجدوا غضاضة فى ذلك، وبالتأكيد لم يجدوا تعارضاَ أو عداء دينياً مع معتقده، وإلا لما عاشوا سنوات معززين مكرمين،

ويفوتنا جميعاً أن ملك الحبشة آنذاك وشعبه كانوا يتبعون كنيسة الإسكندرية، وكان بطريرك الإسكندرية هو الذى يقوم بترسيم رأس الكنيسة فى الحبشة، وكان مسيحيو الحبشة جزءاً من رعية الإسكندرية ويلتزمون بموقفها العقائدى، الذى لم يجد صحابة رسول الله فيه أى غضاضة، أى أنهم كانوا يعيشون وسط المسيحية المصرية، وتقبلوها وتقبلتهم، وإذا كان هذا حدث مع صحابة رسول الله، فماذا نسمى ما يقع بيننا اليوم؟!! وما هذا العداء والاحتدام، الذى يجرح المعانى الإسلامية النبيلة ويمس الروح المصرية بكل ما تنطوى عليه من معانى التعايش والإخاء؟

ما حدث أننا تسامحنا مع خطاب ومع فريق يسخر من مصريتنا لصالح فكرة أممية، وارتضينا يوماً من يعلن بأعلى صوته «طظ فى مصر» وأنه يقبل أن يحكمه ماليزى، مادام مسلما وأن المسلم الباكستانى أو الهندى أقرب إليه من المسيحى المصرى، ونشرت كتب ورسائل تردد مثل هذا الكلام، ونحن تسامحنا مع أفكار طائفية، تأمل أننا نردد يومياً الحديث عن «عنصرى الأمة».. وهذا محض كذب، فالأمة المصرية عنصر واحد.. عرق واحد، فقط بينهم من هو مسلم ومن هو مسيحى، ويمكن أن يكون هناك فى أسرة واحدة مسلم ومسيحى، فلماذا نجعلهما عنصرين..؟

الأمر جد خطير ويستحق جدية أكبر فى التعامل، وإلا فهى الفوضى واللادولة، بل اللا مجتمع وفى النهاية اللاوطن، وهذا ما يجب أن نسعى بجدية لتجنب الاقتراب منه.

Friday, July 8, 2011

قبطى.. لا مؤاخذة!



نحذر من أن تعود «ريما» لعادتها القديمة، فننسى دروس ما حدث ولا نتذكرها إلا عندما نفاجأ بأحداث مؤسفة أخرى تعكر صفو الوحدة الوطنية لا قدر الله.

ولا يهمنى الآن اللت والعجن فى حكاية الشخص المضطرب نفسياً، وما إذا كان حادثاً فردياً.. فهذه قصة أصبحت ممجوجة وسخيفة.. ومن قبيل الضحك على الذقون أن نأخذها مأخذ الجد.

المهم الآن حقاً هو أن نعترف بأن هناك مشكلة فعلية، وأن التلكؤ فى حل هذه المشاكل حلاً جذرياً وعاقلاً وعادلاً هو السبب الرئيسى لوقوع هذه الحوادث بين الحين والآخر بشكل يهدد السلم الأهلى والأمن القومى ويفتح باب جهنم أمام تنطع الأمريكان، وغير الأمريكان، على شؤوننا الداخلية.

نعم.. يجب أن نعترف بأن هناك مناخاً من التعصب والتطرف هو الذى يتيح تحول «الحبة» إلى «قبة»، وتفريخ الأزمات والصدامات الطائفية بلا توقف.

يجب أن نعترف أن منابع هذا التعصب وذاك التطرف عميقة الجذور، ومتشعبة الروافد، تتغلغل فى التعليم والإعلام والثقافة والمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية.

يجب أن نعترف أن تجفيف هذه المنابع يتطلب «أعمالاً» لا «أقوالاً»، وأن الأعمال قليلة جداً بينما الأقوال أكثر من الهم على القلب.

يجب أن نعترف أن هناك -إلى جانب مناخ التعصب والتطرف- مشكلة قبطية، وهذه المشكلة ليست بنت اليوم، وإنما هى نتيجة تراكمات تاريخية قديمة تعود إلى أيام الاحتلال العثمانى وفرماناته العنصرية التى تضع قيوداً سخيفة على بناء دور العبادة للأقباط، كما تخلق أوضاعاً تمييزية ضدهم.

ولا يوجد مبرر لاستمرار هذا التراث التركى، أو أن تتحمل الأجيال الحالية وزره بعد دخولنا القرن الحادى والعشرين.

ولا يكفى الاعتراف بذلك، بل يجب اتخاذ إجراءات عملية سريعة وحاسمة للتخلص من هذا الإرث العنصرى والطائفى.

وهذه الإجراءات العملية تبدأ بنسف الخط الهمايونى الذى ما زال يحكم عملية بناء الكنائس واستبداله بقانون ديمقراطى موحد لبناء دور العبادة، ينظم ممارسة هذا الحق ولا يعرقله أو يضع العقبات أمامه.

وتشمل هذه الإجراءات العمل على الاحتكام إلى مبدأ «المواطنة» فى تولى المناصب العامة، بصرف النظر عن الدين أو اللون أو الجنس، و«تجريم» أى مخالفة بهذا الشأن، فالمواطنة ليست شعارات وإنما ممارسة، وتقنين هذه الممارسة هو الذى سيؤثِّم أى افتئات عليها لأى سبب من الأسباب.

بيد أن هذه الممارسة أوسع من القوانين فهى تتطلب إعادة نظر شاملة فى مناهج التعليم والأنشطة الدينية والفتاوى، بما يضمن تعزيز الفهم المشترك لأبناء الوطن الواحد، ويستأصل أى صورة من صور بث الكراهية أو الاغتيال المعنوى لبعضهم البعض بسبب الاختلاف فى العقيدة.

وعلى وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة فى ذلك، وأمامها جدول أعمال كبير -لم تنجز عشر معشاره بعد- وليس من المبالغة فى شىء أن نقول إن «ثورة» بهذا الصدد فى الإعلام يجب إطلاق شرارتها اليوم قبل الغد، وهى ثورة لا يجب تشويهها مسبقاً بحصرها فى دائرة الشعارات والأغانى والأهازيج العاطفية السطحية التى تعتبر أكبر إنجازاتها نشر صورة الهلال مع الصليب أو صورة شيخ مع قسيس.

ومن المثير للاشمئزاز والاستياء أن نستعيد سخافات كثيرة حدثت فى الإعلام من قبل، منها على سبيل المثال أن يظهر على شاشة التليفزيون شخص يتحدث ببلاهة قائلاً: «قبطى.. لا مؤاخذة!».

هذه الغثاثة لا تقل خطراً عن صور مقابلة للتعصب القبطى وصلت إلى حد رفع قلة من المتطرفين الأقباط علماً مختلفاً عن العلم المصرى، أو رفع شعارات مهووسة تستجير بالأمريكان.

وليس المهم الآن التوقف أمام ظاهر هذه السلبيات.

الأهم هو تجفيف المستنقعات التى أفرزتها وجعلتها تظهر وتنتشر فى بلد كان مهداً للحضارة.

■ ■ ■                                      

هذه الكلمات السابقة -عزيزى القارئ- ليست تعليقاً على كارثة نجع حمادى التى وقعت عشية عيد الميلاد فى السادس من يناير ٢٠١٠، وإنما كتبتها بعنوان «قبطى.. لا مؤاخذة» بجريدة «الجمهورية» يوم ٢٤ أبريل عام ٢٠٠٦، أى منذ ما يقرب من أربع سنوات فى أعقاب الاعتداء على كنيستين بالإسكندرية!! وعندما وقعت فى يدى بالصدفة وأعدت قراءتها مؤخراً تخيلت أنى كتبتها خصيصاً بمناسبة كارثة نجع حمادى! والأغرب أنى وجدتها صالحة للتعامل مع هذه المصيبة!

وهذا معناه أننا لم نتحرك خطوة واحدة للأمام!!

فخلال هذه السنوات وقعت أحداث طائفية حذرت -وحذر غيرى- من أنها ستقع لا محالة إذا لم تتحرك الحكومة والمجتمع.

لكن الشهور والسنين مرت ووقعت الفتنة واحدة بعد أخرى دون أن نتعلم ودون أن نتحرك.

وها هى أحداث نجع حمادى تقع حاملة فى طياتها وحشية أكبر ومخاطر أفدح.

والأعجب أن نفس تشخيص فتن الأمس ما زال هو نفسه تشخيص فتنة اليوم، كما أن روشتة العلاج الموصوفة فى السابق هى ذاتها المطلوبة فى الحاضر.

وهذا معناه أنه ليس هناك فى الأمر «مفاجأة» من أى نوع، وأن من يدعى أنه قد «فوجئ» باندلاع الفتنة الطائفية فى نجع حمادى يكذب ويستخف بذكاء المصريين.

فمن المسؤول عن ترك هذه القنابل الموقوتة دون نزع فتيل اشتعالها طيلة هذه السنوات؟!

المسؤول هو كل من ترك المستنقعات التى تنمو وتترعرع بها طحالب التطرف والتعصب والإرهاب على حالها، أو ما هو أسوأ من ذلك أنه أعطاها الفرصة لتستفحل وتتفاقم وتمتد بطول البلاد وعرضها.

المسؤول هو كل من بارك سياسة التسويات العرفية وشارك فى تعطيل تنفيذ القانون بحسم وركنه على الرف فى كل الأحداث الطائفية السابقة.

المسؤول هو الحكومة التى لم تقم بواجباتها التى أشرنا إلى بعضها فى السطور السابقة، واكتفت بالتعامل مع هذه المسألة الخطيرة كمجرد «ملف أمنى».

المسؤول هو المجتمع المدنى الذى لم يقم بدوره وأخفق فى حشد القدر الكافى من الضغوط على الحكومة لإيقاظها من سباتها وغفلتها وبيروقراطيتها وسوء تقديرها حيناً وسوء نواياها أحياناً.

المسؤول هو انحطاط النخبة من جراء عقود طويلة من مصادرة الحريات والوصاية على الفكر وتزييف الوعى وتكميم الأفواه بالتزامن مع أوضاع اقتصادية مشوهة كرست نمطاً من أنماط «رأسمالية المحاسيب» أو ما يسمى بـ«الرأسمالية الرثة» التى تقوم على تشجيع الاحتكار والمضاربة والأنشطة الطفيلية، وغنى عن البيان أن مثل هذه البنية التحتية العفنة لا يمكن أن تنتج سوى بنية فوقية متخلفة طاردة للعقلانية والتنوير وقيم التسامح من أجل تفريغ الفضاء العام لمؤسسة الخرافة والفكر الظلامى، والتعصب والانحلال اللذين هما وجهان لعملة واحدة.

وجريمة نجع حمادى -وما سبقها من جرائم طائفية- هى الابنة الشرعية لثقافة عصور الانحطاط، وفاتورة حساب التقاعس عن بناء الدولة المدنية الحديثة، وكان ثمن هذا التقاعس ذلك المسخ الشائه الذى يملك جسم دولة المماليك ورأس الدولة الدينية!

■ ■ ■

فهل آن الأوان لركوب قطار الحداثة.. أم أننا سنعيد نشر «بكائية» الإسكندرية و«مرثية» نجع حمادى بعد سنوات عجاف أخرى؟!

Friday, July 1, 2011

كيف تعمَّقت الطائفية؟





شهدت مصر صبيحة رأس السنة الميلادية الجديدة جريمة إرهابية استهدفت مصلين أبرياء فى مدينة الإسكندرية، سقط فيها ما يقرب من ٢١ قتيلا وأكثر من ٨٠ جريحاً، وعلى أثرها توترت الأجواء وخرجت مظاهرات قبطية غاضبة تحتج على الجريمة وترفض القهر والتمييز، وأدان المسلمون الجريمة وأبدوا حزنهم على دماء الضحايا الأبرياء فى مشهد، تضامن فيه المصريون فى مواجهة الإرهاب.


وبالقدر الذى أخرجت فيه هذه الجريمة مشاعر صادقة من التضامن الإنسانى وكراهية العنف والدماء المعروفة عن الشعب المصرى، بقدر ما فتحت أيضا جراحا غائرة واحتقانا عميقا بين المسلمين والأقباط بات من الصعب تجاهله.


والحقيقة أن عملية إرهابية من هذا النوع كانت ستثير فى مجتمع صحى (وليس فقط ديمقراطياً) تضامناً حقيقياً بين الناس، يشمل تظاهرات مشتركة ولو صامتة بين المسلمين والأقباط، ترى أن الجميع مستهدف أمام الإرهاب، حتى لو كان المسيحيون هم الهدف هذه المرة، ولكن شهدنا حوادث تدل على أن هناك مشكلة بين المسلمين والأقباط بدأت برشق المسجد المجاور لكنيسة القديسين بالحجارة، ومحاولة للاعتداء على شيخ الأزهر ومظاهرات قبطية، حرصت على أن تكون ذات لون طائفى واحد.


والحقيقة أن ردات الفعل المسيحية فى معظمها مفهومة وبعضها مبرر، لأنها نتاج ميراث طويل من التهميش والتمييز، إلا أنها لا تصنع مستقبل وطن مؤمن بالديمقراطية والمواطنة ورفض الكراهية.


والحقيقة أن هذا المناخ المحتقن طائفيا قد أدى إلى فشل فى قراءة الحادث الإرهابى بشكل علمى، وبدت المؤشرات الأولية أمام أى باحث مبتدئ فى شؤون الحركات الإسلامية التى تقول إن أصابع القاعدة وراء العملية وكأنه دفاع عن الحكومة ومحاولة تلبيس الأصابع الخارجية المسؤولية عن كل ما يجرى، وهو أمر غير صحيح لأن مسؤولية القاعدة لا تنفى مسؤولية الحكومة فى التقصير عن حماية المسيحيين وعن تعمق هذا المناخ الطائفى.


وذهب بعضنا إلى تحميل الإسلاميين المتشددين والتيارات السلفية المصرية مسؤولية هذه الجريمة، وهو أمر غير صحيح، فهم بالتأكيد مسؤولون عن جرائم أخرى ولكن ليس هذه الجريمة، تماما مثلما أشار البعض إلى مسؤولية الموساد وهو احتمال غير وارد وغير علمى لأن إسرائيل موجودة فى منابع النيل، ومعركتها الحقيقية هناك وليس أمام أبواب الكنائس، ولأننا فشلنا فى المعركة الحقيقية فاتهمنا إسرائيل فى معركة وهمية.


والمؤكد أن فشل مجتمع فى مجرد تقديم قراءة موضوعية لحدث إرهابى يحدد فيه الجانى والجهة المسؤولة بشكل مهنى بعيدا عن أى حسابات ومواءمات خارج القانون، يؤكد أن المجتمع المصرى فى أزمة حقيقية، وأن ردات الفعل التى شاهدناها طوال الأزمة الأخيرة تدل على أن البلاد لن تخرج من الطائفية طالما بقيت نفس المعادلات السياسية مستمرة، وأن طريقة المعالجة الإعلامية والحكومية للحدث تكرس من إحساس المسيحيين بالغربة والتهميش حتى لو تغنت كل يوم بشعارات الوحدة الوطنية.


والمؤكد أن اختزال الحادث فى أنه فقط مجرد حادث إرهابى يستهدف استقرار مصر ووحدتها دون أى إشارة إلى استهداف المسيحيين (لأنهم مسيحيون)، أمر فى غاية الخطورة، كما أن هذا الخطاب الممل عن الوحدة الوطنية يشعر المسيحيين بأن الدولة تتذكرهم فقط فى المصائب وأنها تركتهم لأكثر من ثلاثين عاما ضحايا للتعصب الإسلامى والمسيحى على السواء،


ولم تحاول أن تستمع لمشاكلهم ولا أن تحل بعضها، ولم تفهم معنى شعور ملايين المصريين بالغربة عن وطنهم، بعد أن تركت الحكومة خطابا إسلاميا شكليا يهيمن على عقول المصريين، حكمته فلسفة غير رشيدة تقول إن كل شىء مباح طالما ظل بعيدا عن العمل السياسى المنظم، فلا مانع من الأفكار الطائفية أو الظلامية أو حتى التكفيرية طالما أنها بعيدة عن السياسة، ولا مانع من السب والقذف طالما لا يمس أهل الحكم.


وعاش الحكم على المواءمات والجلسات العرفية حين وجب التدخل بقوة القانون وهيبة الدولة، وتدخل بقسوة حين كان يجب الابتعاد، حتى وصل إلى الاعتداء على عشرات النشطاء فى قلب القاهرة مساء الاثنين الماضى وبينهم أديبنا الكبير بهاء طاهر، لأنهم تضامنوا مع المسيحيين فى وقفة صامتة.


والمؤكد أن لا الدولة ولا الكنيسة سترحبان بأى صور تضامنية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين إلا تلك الباهتة التى يعدها الأمن مع الحزب الوطنى فى الجامعات المصرية، أما التضامن مع المصلين يوم الخميس المقبل فهو أمر لن يقبله من اعتادوا على إدارة الملف الدينى بالطريقة القديمة، فالمسيحيون يمكن أن يتظاهروا ضد الدولة «شوية» ويتوقفوا، ويمكن أيضا أن يتظاهر بعض الإسلاميين ضد الكنيسة ويتوقفوا. أما أن تخرج اللعبة من هذا الإطار الطائفى وتدخل فى مساحة مدنية جديدة فهذا بالتأكيد أمر سيربك حسابات الأمن الذى سكن المشكلة الطائفية على أساس التمييز الدينى، وأن أى خلاف سير أو مشكلة جيرة لا يحلها القانون إنما حسابات أمن الدولة.


إن الطائفية تعمقت فى مصر بعد أن غيب الحكم أى أمل فى تغيير أو إصلاح سياسى، وبعد أن أضعف الأحزاب وحاصر القوى الاحتجاجية الجديدة وجعل رموز المجتمع ونجومه هم رجال الدين ولاعبى الكرة وبعض الممثلات الهابطات، وهذه الطائفية ستعرف مزيداً من التعمق وستصل لمرحلة الخطر بعد أن حصل الحزب الحاكم على ٩٥% من أصوات الناخبين وصدق بعض قادته أنفسهم حين تصوروا أن هذا النصر الكاذب نتيجة عبقرية تنظيمية وليس تزويراً فى الانتخابات.


إن المصريين محبطون من النظام السياسى برمته ومن فشل حكومى متتال عمق إحساس الجميع بالغربة والاضطهاد، وجعل هذا الإحساس مضاعفا عند المسيحيين الذين اضطروا للتعايش مع شعارات المسلمين عن عظمة دينهم، فى حين أنهم قدموا فى الممارسة اليومية نموذجاً نادراً من التدين المغشوش، حافظ بامتياز على الفساد والرشوة والتحرش الجنسى وكل القيم التى تتناقض مع مبادئ أى دين.


سيتقبل معظم الأقباط الإسلام كمرجعية ثقافية وحضارية للأمة كما فعلوا فى فترات كثيرة سابقة، لو كانت هذه المرجعية تؤمن لهم عيشاً كريماً ومجتمعاً ديمقراطياً ينجز على المستوى الاقتصادى والسياسى، ويشعرون أن قيمها العليا تترجم عمليا فى التسامح وقبول الآخر، وإلا ما كانوا بالغوا فى حساسيتهم تجاه الإسلام والمسلمين.


إن مواجهة الطائفية فى مصر ستبدأ بإجراءات قانونية تعالج المشكلات التى يعانى منها المسيحيون فى الوظائف العامة ومؤسسات الدولة، وفى تغيير المناخ السياسى والثقافى الذى عمق الطائفية، وبالتأكيد فإن الحكم يمكنه التقدم فى الجانب الأول بأن يتخذ بعض القرارات والإجراءات بهدف مواجهة الغضب القبطى،


 ولكنه بالتأكيد لن يستطيع التقدم فى الجانب الآخر المتعلق بتجفيف منابع الطائفية، لأنه سيعنى ببساطة تغييرات عميقة فى السياسة تستلزم إخراج الشباب القبطى من العزلة إلى المشاركة فى المجال العام، وهنا سيجدون أنفسهم أمام مجال سياسى مؤمم بالكامل لحساب شلة، وأحزاب ضعيفة ومجتمع مدنى محاصر ودولة غائبة، فسيكون الأفضل الاحتماء بـ«دولة الكنيسة» كما فعل مصريون آخرون حين بنوا دولتهم الموازية فى كل مناحى الحياة.


نعم بكل حزن وأسف سيزداد الاحتقان الطائفى، لأننا غير قادرين على مواجهته فى ظل الأوضاع السياسية الحالية، وإنه بالقدر الذى سيخرج فيه المسيحيون من خطاب رد الفعل الطائفى إلى خطاب مدنى عام يكونون قد ساهموا فى إصلاح أحوالهم وأيضا أحوال وطنهم.