Friday, August 26, 2011

العنف الطائفى فى عامين



عنوان هذا المقال يحمله تقرير دراسي جاد ومهم صدر هذا الشهر عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية-برنامج حرية الدين والمعتقد- وهي إحدي منظمات المجتمع المدني التي دأبت علي مراقبة ورصد حالة الحريات عموما والحريات الدينية خصوصا في مجتمعنا، وإصدار تقارير ربع سنوية تسجل الواقع وما يعتريه من تجاوزات وخلل علي جميع المستويات الشعبية والدينية والرسمية.

التقرير يقدم دراسة شجاعة تسلط الضوء علي تردي الاستقرار والسلام الاجتماعي في معظم محافظات مصر نتيجة لاستفحال أحداث العنف الطائفي،وهو الأمر الذي يستدعي من الذاكرة شهادة الدكتور أحمد كمال أبو المجد -النائب السابق لرئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان- الذي قال: إن من أكثر الأمور مدعاة للقلق تقارب أحداث العنف الطائفي زمنيا من بعضها البعض بشكل غير مسبوق،كما أن التقرير يتفق مع تقييم الدكتور كمال أبو المجد في أن إنكار الأجهزة المعنية في الدول لوجود المشكلة يؤدي إلي عدم مواجهتها بجدية وصرامة مما يؤدي إلي تفاقمها.

لست أدري إذا كان هذا التقرير المهم سوف يجد طريقه إلي سائر المسئولين في الدولة، أو إذا وجد طريقه إليهم سوف يعطونه ما يستحقه من الدراسة، وماذا سيفعلون بتوصياته؟...كل هذه الأسئلة لا أجد لها إجابات واضحة، وأعترف أن الخبرة السابقة لا تنظر بتفاؤل إزاء ذلك، لأنه منذ تقرير لجنة العطيفي عام1972 في مهد الأحداث الطائفية دأبت المؤسسات التشريعية والتنفيذية في الدولة علي تجاهل مواجهة الواقع المختل المريض بالعلاج والإصلاح الواجب واكتفت بإنكاره والتعتيم عليه وتركته يتفشي حتي أصبح سمة كريهة من سمات مجتمعنا...لذلك كله سوف أستعرض في هذا المقال - وفي مقالات أخري تتبعه - مضمون هذا التقرير، لأن من حق الرأي العام أن يعرفه، ومن واجب مؤسسات كثيرة في الدولة أن تستشعر مسئولياتها تجاهه.

يبدأ التقرير برصد الوتيرة المتسارعة لأحداث العنف الطائفي في العامين الأخيرين، ومدي انتشار هذه الأحداث في ربوع مصر،ثم يقدم تحليلاً لأنماط هذا العنف قبل أن ينتقل إلي جزئية شائكة علي درجة عالية من الخطورة وهي كيفية تعامل الدولة في تلك الأحداث،وأخيراً يخلص التقرير إلي بلورة سبل العلاج بالإجابة عن سؤال: من أين يبدأ الحل؟ مع وضع توصيات محددة موجهة إلي الحكومة المصرية.

فإذا بدأنا جولتنا التفصيلية مع التقرير نجده يضع مصر ضمن كثير من المجتمعات التي تتشكل من أفراد وجماعات يعتقدون في عقائد دينية مختلفة،وبينما تمتلك شريحة كبيرة من هذه المجتمعات القدرة علي التعايش مع هذا الاختلاف والتنوع والبناء عليه واستثماره لصالح إثراء الحياة العامة،تبقي شريحة أخري منها عاجزة عن التعايش مع الاختلاف وغير قادرة علي إدارة التنوع الكامن في قواها البشرية.ويؤدي ذلك القصور في الشريحة الثانية إلي إفراز الصراعات وما يتبعها من مظاهر العنف الطائفي بين الأفراد والمجموعات الطائفية المختلفة،وهذه الحالة عينها التي تشهدها مصر والتي تطورت سلبياً لأن تأخذ وتيرة متسارعة في الأعوام الأخيرة، خاصة في ظل غياب التدخل السليم من قبل الدولة،وبناء عليه بات من المحتم أن يعي المجتمع المصري أنه يواجه خطراً حقيقياً يهدد بتحوله إلي طوائف منعزلة ومستقطبة ويدفع به نحو التفتت.

وفي الوقت الذي يبدو فيه أن التعامل مع هذا الملف يتطلب إرادة سياسية واعية وعملاً جاداً دءوبا من جميع سلطات الدولة، وبمشاركة فعالة من المجتمع المدني،نجد أن الكثير من السلطات التشريعية والتنفيذية والأمنية تنكر وجود العنف الطائفي أصلاً وهي نقيصة خطيرة، يجب أن تتخلص منها تلك السلطات التي تنزع في مقابل ذلك إلي التهوين من أمر المشكلة والاستخفاف بها وإظهار درجة غريبة من قصر النظر إزاء التعامل معها تصل إلي حد التنصل من المسئولية تماما.

يسجل التقرير أن مصر شهدت منذ يناير 2008 وحتي يناير هذا العام 35حادثة عنف أو توتر ذي طابع طائفي،أي بمعدل يتجاوز قليلاً حادثتين شهرياً، وكانت 71 محافظة من محافظات مصر الـ 29 مسرحاً لهذه الحوادث التي كانت جميعها من مسلمين تجاه مسيحيين باستثناء حادثة واحدة شهدت عنفا موجها من مسلمين تجاه بهائيين...والجدير بالملاحظة أن التقرير يسجل أن نسبة غير قليلة من تلك الحوادث وقعت في أيام الجمعة وعقب صلاة الجمعة للمسلمين تحديداً، وتأتي بعد ذلك أيام الآحاد...وأن النسبة الأكبر من المتورطين فيها هي للذكور من الشباب والمراهقين.

ينتقل التقرير بعد ذلك إلي تحليل أنماط العنف الطائفي، فيذكر النمط الأول: لحوادث الانتقام الجماعي الذي يستهدف أتباع ديانة معينة في منطقة بأكملها، ويقرر أن الغالبية العظمي لتلك العمليات كانت من مسلمين تجاه مسيحيين،وأن فكرة الانتقام الجماعي تقوم علي سريان قناعة غير عقلانية تلقي علي جميع المسيحيين في منطقة ما بالمسئولية عن فعل منسوب لشخص واحد، لمجرد أن هذا الشخص مسيحي، ودون وجود أدني علاقة بين المجموعة المنتقم منها وبين هذا الشخص...أما النمط الثاني: لحوادث الانتقام فيرتبط بممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية بالصلاة سواء ارتبط ذلك ببناء كنيسة جديدة، أو توسعة كنيسة قائمة، أو محاولة تحويل مبني إلي كنيسة، أو محاولة الصلاة في أحد المباني أو المنازل...والاعتراض علي ذلك لم يكن مقصوراً علي المسلمين في الجوار، بل امتد إلي ممثلي الدولة الذين يرفضون تجمع المسيحيين للصلاة في أحد المنازل، ويقومون بإلقاء القبض علي المصلين والتحقيق معهم،وقد كان هذا المسلك من جانب ممثلي الدولة هو العامل المشجع للمسلمين علي إعلان احتجاجهم ورفضهم إقامة المسيحيين لصلواتهم، إذ يشعر المسلمون في هذا الموقف أنهم في خندق واحد مع السلطة والدولة!! وفي هذا الصدد رصد التقرير حالات تورط فيها ضباط الشرطة في عمليات تحريض المسلمين ضد وجود مبني لصلاة المسيحيين في الجوار، وكانت أجهزة الأمن علي أثر ما يندلع من توتر نتيجة ذلك، تسارع بإغلاق المبني وتضع عليه حراسة دائمة لضمان عدم تكرار الصلاة فيه!!ولا يخلو الأمر في هذا الخصوص من رصد حالات عديدة تدخلت فيها أجهزة الإدارة المحلية بالتعاون مع السلطة الأمنية لمنع مسيحيين من بناء أو استكمال بناء منازل أو عقارات علي أراضيهم بدعوي شكوك تلك الأجهزة أن النية مبيتة لتحويل المبني إلي كنيسة....هذا بالإضافة إلي الحالات المألوفة من تدخل الأجهزة عينها لمنع المسيحيين من ترميم كنائس قائمة ومرخصة، أو حتي طلب إزالة الصلبان من عليها بزعم عدم تهديد السلام الاجتماعي وتلافي إثارة المسلمين!! ليس هذان النمطان هما الوحيدان ضمن أنماط العنف الطائفي.. وإلي حلقة مقبلة استكمل فيها استعراض هذا التقرير الخطير.

Friday, August 19, 2011

يوميات" قبطي".. من البلاااااااادي




على مدى شهرين وأنا لا أتابع أي شئ بعيداً عن الثورة ولا أكتب في شئ بعيداً عن الثورة.. تخلصت من حالة الإدمان التي لم أستطع العلاج منها على مدى تجاوز 40 عاماً وهي الذهاب ثلاث مرات أسبوعياً إلى دور العرض السينمائية.. قبل أسبوع واحد فقط عدت مرة أخرى لتعاطي الأفلام في دور العرض بجرعات أقل من المعتاد إلا أنني لم أكتب شيئاً عنها دائماً لدي شئ يلح علي في الكتابة له علاقة مباشرة بثورة 25 يناير!!

في مساء ذلك اليوم أقصد 25 يناير كنت عائداً ليلاً من ميدان التحرير مع أول صرخة "لا" ضد فساد عهد "مبارك" ذهبت من حي المنيل حيث أقطن إلى ميدان التحرير سيراً على الأقدام وكذلك كانت عودتي وأنا في طريقي للمنزل ألقيت نظرة على استعلامات "روزاليوسف" صحيح أنا في إجازة بدون مرتب من المجلة  طوال السنوات الخمس الأخيرة ولكن دائماً ما يرسل لي بعض الأصدقاء الدعوات والكتب على "روز اليوسف" كل من يريد أن يترك لي شيئاً يذهب إلى محل إقامتى الوظيفي القديم ووجدت ظرف به كتاب من الصحفي الزميل "فيليب فكري" الكتاب عنوانه "يوميات قبطي ساخر" وتتصدره هذه العبارة "أنا من البلااااادى".. لم ارتح إلى العنوان هل هناك مسلم ساخر وقبطي ساخر ودرزي ساخر أم أن السخرية لا دين لها وجدت في اختيار العنوان قدرا لا ينكر من الطائفية.. نشبت حالة عداء بيني وبين العنوان ورغم ذلك فان السبب الحقيقي لامتناعي عن القراءة  هو أنني لا أميل إلى التعامل مع أي حدث  بعيداً عن الثورة التي يوم أن شاهدت بواكير ساعاتها الأولى أيقنت أننا بصدد ثورة حقيقية لم أوقن من نجاحها ولكنى تأكدت من صدقها.. نحيت الكتاب جانباً مع عدد آخر من الكتب التي أرسلها لي بعض الأصدقاء.. قبل أيام قليلة عاودني شعور جارف بضرورة القراءة وجدت كتاب "أنا من البلاااادى" لا يزال يتحداني بتلك النظرة التي لها مذاق طائفي أرفضه لأن الإحساس بالوطن ينبغي أن يسبق الإحساس بالدين.. الوطنية لا تعني أن تنحي جانباً مشاعرك الدينية ولا أن تصبح بديلاً عنها ولكن يظل الوطن هو الانتماء الذي يحتوينا جميعاً وبعد ذلك تصلي يوم الأحد في الكنيسة أو الجمعة في الجامع هذه هي قناعتك وإرادتك الشخصية!!

أخذت الكتاب بقدر لا ينكر من عدم الاكتراث ثم قلت لقد أكدت ثورة 25 يناير أن المسلم والمسيحي اكتشفا أن الدولة هي التي رسخت بذور الطائفية وأحالت المواطن المصري إلى مسلم أولاً أو مسيحي أولاً وليس "فيليب" هو المسئول عن تلك المشاعر.. بدأت في القراءة التي تسمح لي بحكم الخبرة أن أحكم على الكاتب من المقدمة.. قراءة بها قدر لا ينكر من الريبة والتشكك ولكني وجدت أن البداية ينطبق عليها هذا التعبير اللغوي "براعة الاستهلال" حيث كتب "مقدمة الطبعة رقم 18" والكتاب لم يوزع نسخة واحدة.. تابعت كل فصول الكتاب على مدى ثلاث ساعات وأنا في حالة من النشوة والسعادة بمولد كاتب ساخر يمزج عالمه كما وصفه بالمختلف بأحداث بها لا شك قدراً من الخيال فهو يعتبر كونه قبطياً فإنه من وجهة نظر البعض مختلفاً وفى نظر البعض الآخر يستحق الرثاء ليتغلب على تلك المعاناة التي وضعتها الأقدار رغماً عنه في طريقه هو مضطهد من أغلبية مسلمة مع الأخذ في الاعتبار أن قلة من المسلمين تعامله باعتباره مصري أولاً!!

لم ينس أبداً حصة الدين التي أجبروه خلالها على أن يحفظ آيات قرآنية.. لم ينس أيضاً تعنت أستاذة اللغة العربية الصارمة ولا أستاذة الدين بينما الأستاذ "حسين" مدرس الرسم والذي يبدو من اسمه أنه مسلم كان يمنحه الدرجات النهائية وشجعه على أن يتقدم لمسابقة الرسم على مستوى مصر وكيف أنه انتظر الجائزة الأولى ومنحوه الثانية لأنه قبطي وتساءلوا كيف يحصل على جائزة عن القدس طالب مسيحي رغم أن القدس للأديان الثلاثة فهي المدينة التي وصفها المخرج الأمريكي "ريدللى سكوت" في فيلمه الشهير بأنها "مملكة الجنة" التي يتوجه كل عباد الله إليها في العالم ورغم ذلك صارت هي عنوان الحروب والصراعات.. ودفع "فيليب" الثمن وأُبعد عن نيل الجائزة الأولى.. ربما ما ذكره "فيليب" هو الحقيقة وربما كانت هذه هي ما اعتقد أنه الحقيقة.. أحياناً الإحساس بالاضطهاد الديني يجعلنا نفسر كل شئ سلبي يلم بنا بإحساس طائفي.. أتذكر أن المذيع الشهير"أسامة منير" حكى انه قبل نحو 20 عاماً تقدم إلى لجنة الاستماع في الإذاعة لاعتماده كمطرب ورفضته اللجنة.. اعتقد للوهلة الأولى أن الملحن الراحل "عبد العظيم محمد" والذي كان يلحن العديد من الأغنيات الدينية هو الذي ساهم في رسوبه لأسباب متعلقة بكونه قبطي وكتب "أسامة" زجلاً يسخر فيه من رسوبه بسبب ديانته قائلاً "إذا كنت موريس أو جريس من حقي أركب الأتوبيس".. نجح هذا المذيع وصار أشهر إعلامي في كل الإذاعات المصرية خاصة وعامة وأعاد مفهوم المذيع النجم الذي اندثر.. فهل كان "عبد العظيم" طائفياً عندما رفض صوته كمطرب أم أنه بالفعل لا يصلح والدليل أنه بعد أن بات مذيعاً ذائع الصيت لم يفكر في أن ينتج شريطاً غنائياً يؤكد من خلاله أحقيته بأن يعتلي أيضاً عرش الغناء.. أحياناً يصبح التفسير الطائفي هو المسيطر علينا مسلمين كنا أو أقباط وهو ليس بالضرورة التفسير الصائب دائماً!!

"فيليب" اكتشفت من خلال الكتاب أنه عاشق متيم بالسينما ولكنه عاتب على فيلم "بحب السيما" الذي قدم لأول مرة شخصيات قبطية في أدوار البطولة.. لديه إحساس أن الفيلم جرح طائفته الأرثوذكسية ربما لحساب الطائفة الإنجيلية التي ينتمي إليها كاتب الفيلم "هاني فوزي".. رأيي أن "بحب السيما" للمخرج "أسامة فوزي" هو أول فيلم مصري نرى فيه عائلات قبطية من دم ولحم ولا يقدم القبطي باعتباره مصرياً مختلفاً كما تعودت الدراما التي تتناول عادة الأقباط حيث تشعر بقدر من الحساسية يغلف الدراما ورغم ذلك فإن من حق الأقباط أن يشعروا بقدر من الحساسية الزائدة.. أتفهم كل ذلك وإن كنت أرى أن المثقف الساخر كان من الممكن أن يتجاوز تلك الأحاسيس التي تبدو وكأنها تضع أوراق من السوليفان على الأقباط!!

يبقى أجمل فصول الكتاب وهو يتناول علاقته بالمرأة سواء كانت مسلمة أو مسيحية ويبدو فيها تأثره بفيلم "حسن ومرقص" وتلك المفارقات التي رأيناها عند إعلان الأبناء ديانة كل منهما ويبقى الفصل الأخير الذي لم يكتب وهو علاقة "فيليب فكرى" بثورة 25 يناير وهذا المشهد الذي رأينا فيه الأقباط يتحوطون حول المسلمين لحمايتهم أثناء صلاة الجمعة في ميدان التحرير ورأينا المسلمون يتحولون إلى دروع بشرية لحماية الكنائس بعد حالة الانفلات الأمني.. إنه فصل أتطلع بشغف أن أقرأه في طبعة الكتاب رقم 19 على اعتبار أن الطبعة الأولى كانت تحمل رقم 18!!

Friday, August 12, 2011

العامل الحاسم




الجوع كما نعرف جميعًا كافر لكنه يُكفِّرك أنت ربما، بينما لا يجعلك تُكفِّر الآخرين أبدًا، لا الجوع ولا الفقر يمكن أن يجعل من الشخص متطرفًا دينيًا أو إرهابيًا، والنظريات التي تفتي بأن الوضع الاقتصادي هو السبب وراء موجات التطرف والتعصب الديني والطائفي تفتقد الدقة وتتعري من الصواب حين تكتشف أن ثمانية عشر شابًا من التسعة عشر الذين نفذوا عملية 11سبتمبر كانوا سعوديين أغنياء وبعضهم كان مرفهًا، قائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ملياردير سعودي من عائلة هائلة الثراء كما أن نائبه أيمن الظواهري طبيب غني من عائلة ثرية وشهيرة أحد أبنائها كان شيخًا للأزهر، كلاهما إذن دليل علي أن التطرف ليس بالفقر أبدًا، طبعا هناك متطرفون من أوساط وعائلات وطبقات فقيرة لكن ليس بسبب الفقر أصبحوا متطرفين بل بسبب الفكر وهو نفس الفكر الذي يدفع كثيرين من الأغنياء أو الطبقة المتوسطة للتطرف بل للإرهاب.

إذن ما السبب الذي يجعل المصريين والعرب يتطرفون دينيًا؟

ليس الفقر ولا الضغوط الاقتصادية بالقطع؛ لأن التطرف ينتشر في مصر والجزائر والسعودية وليبيا واليمن وتونس مثلا وهي دول لا يجمعها وضع اقتصادي واحد بل يربطها العامل الحاسم في صناعة التطرف الديني.. هذا العامل هو الاستبداد!

الحكم السلطوي والسلطة الاستبدادية هي التربة الخصبة للتطرف الديني، ابحث معي بأمانة عن أي مجتمع يلد تطرفًا دينيًا ستجده مجتمعًا مستبدًا ويتربع عليه زعيم أبدي ينفرد بالسلطة ويحتكر الحكم، طبعًا ستجد متطرفين في كل الدنيا ومنها البلاد الديمقراطية ولكن ليس بهذا التمركز ولا الانتشار ولا التكاثر ولا الاستمرار أو الديمومة، فالمجتمعات العربية الاستبدادية هي التي تنتج بنشاط مذهل كل يوم ملايين المتطرفين.

عندما يصبح الرئيس حاكمًا بأمر الله ويتحول الملك إلي ظل الله علي الأرض، وحينما لا تستطيع المجتمعات تغيير حكامها ولا مواجهة استبدادهم فالخلاص الوحيد هو الفساد والرشوة والحل الفردي والانتهازية الشخصية والعنف الوحشي من جهة أو التطرف الديني من جهة أخري، فالديمقراطية تعلمك سماع كل الآراء والتعبير الحر عن النفس والتسامح مع الخصوم والمختلفين والقبول بالآخر والتحاور البناء الإيجابي والصراع والتنافس الشرعي واحترام سيادة القانون والمساواة والسواسية بين الجميع، ولكن الاستبداد يعلمك النفاق والرياء والطاعة للحاكم والطبل والزمر له والانسحاق أمامه وكراهية الآخر وتخوين المعارضين وتكفيرهم وعدم احتمال الاختلاف.

الاستبداد يصنع كل مقومات الشخص المتطرف وهي:

1- المسايرة.

2- الخضوع.

3- الاستسلام.

والمواطن في مصر كما في السعودية كما في ليبيا وتونس مثلا تتوفر فيه كل هذه المقومات التي تربي عليها ونشأ وترعرع، ولذلك حين يقف التطرف علي الباب يستقبله الاستبداد مرحبًا به بين أهله: حللت أهلاً ونزلت سهلاً... جدًا.

Friday, August 5, 2011

التجربة الهندية فى محو التعصب




أعشق الهند كطبيعة جميلة وحضارة كبيرة، وأتذكر جيدا المهاتما غاندى كشخصية فريدة قادت الكفاح السلمى للهند حتى استقلالها، فنال احترام العالم كقدوة فى نيل الشعوب حريتها بدون عنف، وكيف ثابر وامتنع عن الطعام حتى أشرف على الموت كى تتوحد كل طوائف الهند تحت لواء الدولة المدنية، والتى بفضله ومن بعده أصبحت الآن من الدول السريعة النمو الاقتصادى فى العالم وتبوأت مقعدا وسط الدول الكبيرة، فنال غاندى ليس فقط احترام كل أفراد الشعب الهندى ولكنه نال حبهم لدرجة العشق لشخصه المتواضع النبيل حتى بعد وفاته بقيت روحه كرمز لوحدة الشعب الهندى.

كيف تغلبت الهند على الطائفية التى كادت أن تعصف بها، هذا موضوع يطول شرحه، ولكنى سأذكر تجربة بعينها أهديها إلى المسئولين عن التعليم الأساسى فى بلادى، هذه التجربة لمدرسة بالهند اسمها "نيو ايرا" او بالعربى "العصر الجديد" وهذه المدرسة بنيت منذ عام 1945 وطلابها الآن يزيدون عن الألف ويفدون إليها من المناطق المحيطة بها ومن أجزاء عديدة بالهند وبها طلاب من كل الجنسيات من دول العالم المختلفة وكل الأديان.

هذه المدرسة يملكها زوجان لم تشأ القدرة الإلهية أن ينجبوا أطفالا فسخرا كل وقتهما لتعليم وتربية الأطفال واعتبروا أن كل طفل أو طفلة فيها هو ابن أو ابنة لهم فى هذه المدرسة واتخذا من البداية شعارا للمدرسة "نحو عالم أفضل".

ورغم قلة الموارد المالية لديهم فى البداية، لكن طموحهم كان بعيد النظر عالمى الفكر بأن تصير المدرسة نحو العالمية، وهذا الشعار كان لتطبيقه عمليا مع الطلاب سر نجاح هذه المدرسة التى أحدثت منظومة جميلة لتعاون الطلاب مع بعضهم البعض ومع المجتمع المحيط بها.

أعلنت المدرسة هدفها بصراحة وهى تقديم تعليم على مستوى عالمى من خلال مواد دراسية أكاديمية تتحدث دوريا، بجانب الاعتناء بالأخلاق والعيش المشترك من خلال منظومة مبادئ وقيم يسير عليها الطلاب، بحيث يتخرج منها فى النهاية طلابا إلى المجتمع المحيط لديهم روح الخدمة لكل البشرية وليس الهند فقط.

أولا كانت مهمتهم التعليمية ليس فقط نقل المهارات للطلبة للحصول على العلوم واللغات المختلفة ولكن أيضا للحصول على التعليم الوجدانى والروحانى، بنات وأولاد على السواء يتلقون تعليم و تدريب ينمى قدراتهم ومواهبهم ليجعلهم قادرين على التشاور مع عائلاتهم ومجتمعاتهم ودولهم وعالمهم على الأرض باعتبار أن الأرض وطن واحد والبشر جميعا سكانه، وأن الوحدة فى التنوع والتعدد، وأن المحبة هى سر الوجود، ونبذ جميع أنواع التعصبات بالكلية، هذه المبادئ معلقة على جدران المدرسة يقرأها التلاميذ يوميا ويستوعبونها ويطبقونها.

ثانيا بث روح السعى لتطوير شخصيات الأطفال ذاتيا علميا وأخلاقيا إلى الأفضل باعتبار أن التعليم ليس مجرد إصدار تعليمات يستقبلها الطلبة فى المدارس، ولكن هو عبارة عن بيئة كاملة يعيش فيها الإنسان بداية من العائلة والحى والمجتمع ككل. 

وثالثا ولأن العائلة تلعب دورا أساسيا بصفتها أساس المجتمع فى تعليم أطفالها القيم الروحانية والأخلاقية، ويقف الوالدان مثلا أعلى لأطفالهم، ويعلّموا أطفالهم روح التشاور والتعاون واحترام جميع أفراد المجتمع، وبذلك يعد الشباب للتعايش فى مجتمع سلمى عالمى، لذا كان على المدرسة أن تحدث اتزانا مع عائلات الطلاب لكى ترسخ فى الأطفال هذه المفاهيم. 

وكان على مٌدرسة كل فصل دراسى أن تقوم بزيارة عائلات الأطفال بمنازلهم وتشرح لهم رؤية المدرسة وتطلب منهم مساعدة المدرسة فى تطبيق ما يتعلمه الأطفال بها وتتكرر الزيارات باختلاف العائلات وقدرتهم على تطويع ظروفهم ليكونوا عونا لأبنائهم واعتبار هذا الطفل عضو مشارك فى هذه الأسرة وليس بطفل يلهو.

والمدرسة تقيم دوريا مسابقات رياضية للطلاب ومهرجانات يشارك أحيانا بها الأسروالأطفال لديهم أجندة مدرسية بها كل الاحتفالات التى يحتفل بها الهنود سواء أكانت أعيادا قومية وكذلك كل الأعياد الدينية لكل الطوائف بالهند، فيهنئ الأطفال بعضهم كلّ فى يوم عيده، بل ويتشاركون فى أخذ نبذة عن هذا العيد فيشب الأطفال يعرفون كل شىء عن عقائد الآخرين. 

وفى يوم الأحد وهو يوم عطلة يذهب الطلاب بملابس المدرسة يزورون إحدى دور العبادة الكثيرة الموجود بالهند، وقبل الدخول يستمعون جيدا لتعليمات القائمين على المكان ثم يدخلون بكل احترام وبكل هدوء رغم اختلاف العقيدة للبعض، من هنا يتعرف الطفل الصغير على دور عبادة المختلف عنهم دينيا ويألف لهم، وبالتالى لا يستطيع أحد أن يثير الفتنة بين الطلبة.

وأخيرا لدمج الأطفال مع المجتمع الذى يعيشون فيه فتحت المدرسة باب التطوع لعمل عام يخدم المجتمع، فكل طالب يذهب يوم واحد كل شهر للمساهمة فى أحد المشاريع التنموية التى ترعاها المدرسة ومنها إنشاء وتوصيل خطوط المياه النظيفة للقرى الفقيرة والمساهمة فى تطويرها، ويقبل عليه الطلاب بكل حيوية وبهذا تكون المدرسة قد أسست فيهم روح خدمة المجتمع.

أثناء أحداث العنف الطائفى والذى حدث منذ سنوات عديدة بين المسلمين والهندوس نظم الطلاب وعائلاتهم بكل أطيافهم مسيرة رافعين مبادئ المدرسة ومنادين بالسلام لكل الهند، وفى إحصائية عن مناطق التوتر الطائفى بالهند وجدوا أن المنطقة التى بها المدرسة لم تشهد أى أعمال عنف وذلك نتيجة تعليم الـأطفال منذ الصغر وممارسة هذه المبادئ مع عائلاتهم بصورة فعلية أدت إلى حالة من التناغم والمحبة وعدم التعصب وبالتالى السلام الاجتماعى بالمنطقة.

أتمنى أن يزور وفد من وزارة التعليم هذه المدرسة ليطّلع على ما يقومون به من فاعليات ترسخ مفهوم العيش فى عالم واحد فى سلام بل وتهيئة الطالب لخدمة المجتمع أينما وجد.

هذه المدرسة بمقاطعة بنشجانى ولها موقع على الإنترنت يمكنكم زيارته، وأكرر مرة أخرى محو التعصبات الدينية يبدأ بالتعليم والتربية فى آن واحد.