Wednesday, April 20, 2011

حاجتنـا إلى خطـاب إسلامـي حـول التسامـح

 
كتب: حمدي عبد العزيز
صحفي وباحث مصري
يعترف الدكتور سعد الدين العثماني أمين عام حزب العدالة والتنمية السابق أنه لا يزال هناك تردد وأحيانا غموض لدى عموم الحركات الإسلامية في إعطاء أجوبة نظرية حول مفاهيم سياسية واضحة، على المستوى النظرى، وهو ما يبقى لحد الساعة نقطة ضعف في عمل هذه الحركات، حيث أنه يجافي هدي الدين ومقصده الذي انطلقت منه هذه الحركات، كما أنه على المستوى العملي تهديد مستمر لإنجازات الحركات.
ومن هذه المفاهيم السياسية يبرز مفهوم التسامح، الذي لا يحل إشكالات متعلقة برؤية الإسلاميين للدولة الحديثة ومفاهيم المواطنة والديمقراطية فقط، بل إننى أزعم أنه يؤسس لمرحلة ما بعد الثورات حيث يكون هناك مشروع إسلامي قوي يعبر عن ضمير الشعوب العربية ويستطيع العمل في إطار سياسي وفكري غاية في التنوع.

ما هو التسامــح؟
لقد نشأ مفهوم التسامح فى ظل ظروف تاريخية مغايرة تماماً لما مر به التاريخ العربي - الحروب الدينية فى أوروبا - وبالتالي لم يتم طرح المفهوم بنفس مدلول نشأته فى الغرب لكنه يشير إلى ظاهرة من خصائص المجتمع الإسلامي، وهى حرية الاعتقاد والحق فى الاختلاف.
وكلمة التسامح مشتقة من الكلمة اللاتينية Tolere، أي يعانى أو يقاسى، وفى اللغة الإنجليزية مقابلان لكلمة تسامح: الأول، Tolerance، والثاني Toleration، مما أدى لتعدد الاجتهادات فى تفسير الفروق بينهما فوفقًا لمعجم (وبستر) تعنى كلمة Toleration سياسة السماح بوجود كل الآراء الدينية وأشكال العبادة المناقضة أو المختلفة مع المعتقد السائد، بينما لفظ Tolerance يعنى استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به.
ولم يولد مفهوم التسامح ويكتمل تطوره دفعة واحدة، ولكنه كان مفهومًا علمياً يعبر عن ظاهرة اجتماعية مر بمراحل نمو وتطور، وكذلك تعرض - وما زال - يتعرض - لانتكاسات وتراجعات نتيجة عديد من العوامل والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية، وكانت البداية فى القرن الثامن عشر عندما شهدت أوروبا تحولاً فى الاهتمام بالمفهوم من مجرد اعتباره أداة أو وسيلة لحل مشكلة ما أو للتغلب على ظروف سياسية ودينية ما إلى شعار إصلاحي، بل وقيمة يأمل أي مجتمع فى أن يسود.
وتنبع غالبية تعريفات التسامح السياسي من تعريف كريك عام 1793 م عندما عرف التسامح بأنه الاستعداد لاحتمال الأشياء التي نعارضها والسماح بالتعبير عن الأفكار والمصالح التي نختلف معها، مما يعني أن عنصر الاختلاف هو حجر الزاوية فى المفهوم وهو شرط مناقشته بالأساس.
ويتشابك مفهوم التسامح مع مفاهيم أخرى مثل: مفهوم التنوع والخصوصية والمواطنة والجماعة السياسية الواحدة، حيث يفترض التسامح أن هناك تنوعاً وتعدداً فى المجتمع أياً كانت طبيعته، وأن هذا التنوع تتم ترجمته فى صورة آراء وممارسات، ولكنه فى إطار جماعة سياسية واحدة، ولعل أساس هذه الفكرة يكمن فى ارتباط النشأة التاريخية للتسامح بتعدد الفرق والطوائف الدينية والصراع بينها ومحاولة إيجاد طريقة بمقتضاها تتمكن هذه الطوائف والشيع المختلفة والمتناحرة من التعايش معاً.
بعبارة أخرى: إن التسامح يعنى أولا: قبول الاختلاف، وأن نقيضه هو التعصب، الذي ينفى الاختلاف ويسعى للبحث عن التماثل وإنكار أي شكل من أشكال التنوع والاستقلال، وثانيا: أن المفهوم يرتبط بمفاهيم أخرى مثل التعدد والتنوع والخصوصية وثالثا: أن هناك فجوة بين التسامح كمبدأ مجرد والتسامح كسلوك وممارسة كانت - ولا زالت - أساساً لعديد من الانتقادات التي وجهت لمفهوم التسامح فى الغرب. فما بالك بحال وواقع المفهوم في بلادنا المتوجعة من مخاض التغيير القادم؟!

محـددات مختلفـة
غني عن القول إن الدفاع عن قيم التسامح هو دفاع عن قيم الديموقراطية، فالتسامح باعتباره قيمة من أسمى القيم الإنسانية، تعطى القدرة على احتمال وقوع الخطأ والقبول بالتعايش (جوار الأضداد) وبمسافة منتصف الطريق والاحتكام إلى العقل والإصغاء إلى الرأي العام، لا يعنى سوى توسيع وتعميق فكرة الديموقراطية ومؤسساتها.
وفي كتابها "التسامح السياسى - المقومات الثقافية للمجتمع المدنى فى مصر"، الصادر عن مركز القاهرة لحقوق الإنسان، عام 2000م، تضع الباحثة هويدا عدلى رومان عدداً من المحددات التي تفسر وجود التسامح – أو التعصب – في المجتمع، وهي:
-       المحددات الاجتماعية والديموجرافية: من أبرز المحددات الاجتماعية التي حظيت باهتمام الباحثين التعليم والعمر والدين والمكانة الاجتماعية والسكن فى الحضر، وكل هذه العوامل ذات علاقة إيجابية بالتسامح ماعدا الدين فقد ذهب بعض الباحثين إلى إقامة علاقة إيجابية بين التدين والانتظام فى التردد على الكنيسة وبين التعصب، وذلك بغض النظر عن نوع الطوائف والفرق الدينية؛ فالاختلاف فقط فى درجة هذه العلاقة. وهنا يؤكد الإسلاميون على فكرة "السبق" في أن الإسلام أنشأ مجتمعاً ضم المسلمين واليهود والكفار والمنافقين، وأن الهند تحت الحكم الإسلامي كان بها 300 ديانة شركية، إلا أنهم ينشغلون بدفاعهم عن الإسلام – وله رب يحميه – بدلاً من تأسيس المفهوم على أرض الواقع مع المختلفين دينياً وسياسياً، وبالتالي يتحملون جانياً من المسئولية عن عدم الاستقرار الذي ساد بلادهم – وما زال موجوداً في بلاد أخرى.
-       المحددات النفسية: وتتعلق المحددات النفسية بتقدير الذات، والشخصية السلطوية، والشخصية الدوجماتية، وتوصل بعض الباحثين إلى وجود علاقة إيجابية بين انخفاض تقدير الذات والتعصب السياسي، ومن ناحية أخرى فإن كلاً من الشخصية السلطوية والدوجماتية، وما يتصل بهما من خصائص وسمات ترتبط ارتباطًا إيجابيًا بالتعصب السياسي والعكس صحيح، وهو ما يثير التساؤلات حول الشخصية "الإسلامية" التي قتلها الباحثون وعلماء النفس الغربيون بحثاً دون أن يكون لأبناء الحركات الإسلامية أنفسهم نصيب من ذلك. فهل تنتج حركاتنا الإسلامية شخصية "الأمير الأجير" أم "المستبد العادل"؟ وكيف يمكننا توصيف الشخصية التنظيمية بها؟ فهل هي شخصية مستقلة وشوروية أم شخصية تابعة ودوجماتية؟
-        المحددات السياسية: تُعد الثقافة السياسية من أبرز المحددات السياسية للتسامح فحينما تسود الثقافة المدافعة للمجاراة والتي لا تقبل الاستقلالية تزداد احتمالات التعصب السياسي والعكس صحيح.
ومن هذه المحددات أيضا الفاعلية السياسية، فكلما زاد إحساس الفرد بأنه أكثر فاعلية ، وبالتالي أقل اغتراباً كلما كانت اتجاهاته أميل للتسامح السياسي، نظراً لأن الفاعلية السياسية تؤدى لمزيد من المشاركة السياسية، التي تسهم بدورها فى تعزيز التسامح.
كما ربط بعض الباحثين بين متغير احتدام الصراعات الأيديولوجية فى المجتمع، وبالتالي إدراك أن هناك مزيداً من التهديد السياسي من ناحية وبين الميل نحو التعصب السياسي من ناحية أخرى، ففي أوقات التوتر السياسي الحاد والصراعات الأيديولوجية المستعرة يزداد إدراك الأفراد والجماعات للتهديد السياسي، مما يؤدى إلى ارتفاع معدلات التعصب لديهم.

وبناء على هذه المحددات يمكن طرح بعض عناصر مفهوم التعصب وهي أنه "حكم":
- يفتقد للموضوعية ويتسم بالتعميم أو التبسيط المخل.
- يقوم على أساس مجموعة من القوالب النمطية والتصنيفات الجاهزة والأحكام الحدية والاستقطابية.
- ينشأ فى ظل سياق ثقافي واجتماعي دافع للمجاراة بدرجة أو بأخرى.
- يوجه نحو جماعة معينة أو أشخاص معينين بحكم عضويتهم فى الجماعة.
- يصادر أفراد هذه الجماعة فى الاختلاف.
التسامـح الإسلامـي
إذا كان لفظ "التسامح" لم يرد فى "الأصول المنزلة" – القرآن الكريم والسنة المطهرة - إلا أنه يشير إلى إحدى خصائص المجتمع المسلم، كما جاءت الشريعة بما يقاربه أو يدل على معناه حيث يدعو القرآن الكريم إلى التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف، وكلها من صفات التسامح، مؤكداً حق الاختلاف بين البشر لأن الاختلاف آية بينة، وإن كان لا يلغى الائتلاف.
 وقد اعتبر الإسلام أن الناس جميعاً أسرة واحدة يرجع نسبهم إلى أب واحد وأم واحدة، ورسالته السمحة رسالة شاملة موجهة إلى جميع الناس، وقد ورد فى القرآن الكريم قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء}، وقوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
وفى الوقت الذي يرفع فيه ساسة العالم وأصحاب الرأي فى الوقت الراهن شعار (التعددية) وضرورة التسليم باختلاف رؤى الناس ومذاهبهم فى الفكر والعمل؛ فإن الإسلام يعتبر، منذ أن بدأ الوحي ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أن اختلاف الناس حقيقة كونية وإنسانية ويقيم نظامه السياسي والاجتماعي والثقافي على أساس هذا الاختلاف والتنوع {وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا}.
وبتثبيت هذه النقطة نجد أننا بصدد رؤيتين حول التعددية وطبيعة الحق فى الاختلاف:
الأولى: تعمل على وضع قواعد وآداب الاختلاف، وإن كان إقرارهم بأن الاختلاف فى الرأي سنة من سنن الحياة وعلامة من علامات صحة الفكر ودقة الاجتهاد إلا أنهم يميزون بين الاختلاف والخلاف، ويعتبرون أن الاختلاف فى الرأي أمر طبيعي وعلامة صحة، بل ومصدر للثراء الفكري، وعون على التصحيح إذا أدير بكفاءة وروعيت شروطه وأدابه، بينما يعتبرون أن الخلاف قرين الفرقة التي لا يختلف على إنكارها ونبذها أحد.
وتفرق هذه الرؤية أيضاً بين الاختلاف فى الأصول والاختلاف فى الفروع، بالقول أنه إذا تم الاتفاق حول الأصول فلا مشاحة فى الاختلاف حول الفروع، وكل اختلاف فى هذه الحدود محتمل ومقبول، وبنفس المقدار فإذا انعقد الاتفاق حول الشريعة - الكتاب والسنة - فكل اختلاف حول اجتهادات الفقهاء وأقاويلهم لا يجرح عقيدة أحد ولا يقلل من شأن أحد.
- أما الرؤية الثانية فإنها تقرر أن الإسلام قد احتمل اختلافًا فى العقيدة ذاتها باعترافه بأهل الكتاب، ودعوته إلى البر بهم ويرى أصحابها أن الاختلاف كأحد السنن الكونية التي أقرها الإسلام طبعته بطابع التسامح وقبول تواجد الآخر، فالاختلاف آية من آيات الله كما فى قوله تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم}، كما قال تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}.
وقد بلغ تسامح الإسلام فى قبول المخالف أعلى درجة، إذ احترم ما يعتقده غير المسلم ووسع له فى ذلك، ولم يضيق عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنه أن يحرم ذلك مراعاة لشريعة الدولة ودينها وحتى فى الحوادث التي اتسمت بالتعصب ضدهم فلم تصل درجته إلى استئصال شأفتهم، أو التعامل بالمثل ردًا على تعصب ضد المسلمين فى دول أخرى.
إن التسامح له درجات ومراتب؛ فالدرجة الدنيا من التسامح أن تدع لمخالفيك حرية دينه وعقيدته ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك ولكن لا تمكنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضها عليه عقيدته، فهذه - وإن كان فيها شيء من التسامح - لا تخلو من التعصب.
 والدرجة الوسطى من التسامح هي أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب أما الدرجة التي تعلو هذه ألا تضيّق على المخالفين فيما يعتقدون حله فى دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنه حرام فى دينك أو مذهبك...
وهذه الدرجة يأخذ بها الإسلام فى التعامل مع مخالفيه. فأى درجة يأخذ بها الإسلاميون عند التعامل مع مخالفيهم؟
عند الإجابة عن هذا السؤال سوف أكون من أوائل المتحدثين بخطاب "السبق" و"الدفاع" عن الدين والحركة الإسلامية التي تعتبر – من وجهة نظري – إمتداداً لتاريخ الإسلام الذي بدأه الرسول الأكرم – صلى الله عليه وسلم – إلا أن المقصود من طرح هذا السؤال ليس الغمز في قناة أحد أو تشويه حركات معينة وإنما هو المطالبة بتأسيسي موقف فكرى من المفهوم وإشكالاته على أرض الواقع، حتى لا يكون الإسلاميون في مكان هم قادة التغيير وفي مكان آخر هم قاطرة المحافظة والتعصب.
 
 

No comments:

Post a Comment