Friday, February 24, 2012

التسامح و الاسلام ثقافه و ممارسه



صافح!؟ لم يصافح!! سيصافح؟ لا، لن يصافح! ربما يصافح؛ فليصافح! وماذا لو صافح؟ 
انشغلت وسائل الإعلام الجماهيرية وشغلت جماهيرها معها بقضية مصافحة الملك عبدالله لشمعون بيريز في مؤتمر ثقافة السلام (!) المنعقد في نيويورك الأسبوع الفائت، وتناقلت الصحف والفضائيات بالتفصيل المملّ الإجراءات البروتوكولية التي أُعدّت بحرص شديد لمنع حدوث لقاء مباشر بينهما قد يستدعي المصافحة (المحرّمة) ويسبب إحراجاً لأيّ من الطرفين (المتوافقين المتخاصمين)، مع أنه كان من المفترض أن لا يُدعى مرتكبو جرائم الحرب الصهاينة لحضور هذا المؤتمر، إلا إذا كان الهدف منه مظلة للتطبيع مع إسرائيل. 

لذا لم يفوّت بيريز على نفسه فرصة ردّ تحية بقاء الملك عبدالله في القاعة أثناء إلقائه (بيريز) كلمته بغزل صريح حين قال له: "أتمنى أن يصبح صوتك هو الصوت السائد في المنطقة بأكملها وبين كل شعوبها، فرسالتك هي الرسالة الصحيحة الواعدة"، مطالباً إياه بإحياء المبادرة السعودية للسلام، والتطبيع الكامل للعلاقات، والأهم من كل ذلك القيام بجهد مشترك من أجل مكافحة الإرهاب، كما لم يفته أن يذكّر بخبث شديد بحادثة لقاء الملك فيصل ووايزمن قبل 89 عاماً حيث أصدرا وعداً مشتركاً للتفاهم بين اليهود والعرب، في حين خلت كلمة الملك عبدالله من أي ذكر للقضية الفلسطينية والإرهاب المنظّم الذي يمارسه الإسرائيليون ضدّ الفلسطينيين وبالأخص أهل غزة من قتل وإبادة وتجويع وحصار، في تجاهل تام لجميع الحقوق المدنية والمواثيق الدولية والمضي قدماً في تهويد القدس المحتلة، واكتفى بمجموعة من التنظيرات والمواعظ الدينية الفضفاضة التي تليق بخطيب جمعة أو جماعة لا قائد أكبر دولة عربية في محفل دولي وفي حضور ثمانين من كبار قادة العالم السياسيين والدينيين، ليخرج المؤتمرون (المحبّون للسلام!) بإعلان نيويورك رافضين أن يضمّنوه فقرة تدين الاستهزاء بما يُعتبر مقدّساً لدى أصحاب الأديان.

مناقشة اختلاف الأديان، والدعوة لحوار الحضارات وثقافة السلام، لم تعد ترفاً فكرياً، ولا يصح أن تتحوّل إلى بهرجة إعلامية، أو نزهة سياحية، بل هي ضرورة حيوية وملحة لا تحتمل الانتظار، ولكن وكما أشار الرئيس اللبناني في المؤتمر أنه لابد من إرساء قواعد الحوار (الحق) فـ"القدس مدينة السلام، ولقاء المؤمنين بأديان التوحيد السماوية لا تحقق دعوتها التاريخية ما لم يرفع الظلم عن أبنائها وعن أبناء شعب فلسطين"، كما أنّ رعاية السعودية مؤتمراً دولياً لثقافة السلام في نيويورك في حين أنّ المطالبة بأبسط حقوق المواطنة على أرضها محفوف بالمخاطر، والتمييز المذهبي والديني قائم فيها على قدم وساق، والحال أنّ شعوب معظم بلاد العالم تشتكي من ظلم واستبداد وتمييز يمارس ضدّها برعاية بعض هؤلاء المتشدّقين بقيم السلام والمحبة والتسامح.

حدّدت الأمم المتّحدة يوم السادس عشر من نوفمبر "يوم التسامح العالمي"، ولعلّ هذا المفهوم من أهم المفاهيم التي يجب أن توضع لها ميزانية خاصة وبرامج مدروسة لكي نضمن ممارستها على أرض الواقع بطريقة منهجية وبتطبيق جميع معانيه الواسعة كالتسلّح بالعقل المنفتح على الآخر، والعقلية التي تتسع لتفهّم المختلف وقبوله، وقوة التحمّل، وخاصة أننا نمرّ بمرحلة تعاظم فيها الانتماء المذهبي على حساب الحسّ الوطني والشعور الديني الأخوي.

في يوم التسامح العالمي لابد من مراجعة الدول والشعوب لما خلّفه التطرّف المذهبي أو الديني أو الأيديولوجي من مآسي وكوارث وغصص إما بمساهمة مباشرة من تلك الأطراف أو بالصمت عمّا يجري، فعلى الدول تخصيص جزء من ميزانيتها لإعداد مناهج تربوية متخصصة لتعليم الطلاب معاني التسامح الواسعة، وتدريبهم على ممارسة خلق التسامح فيما بينهم، وإعداد برامج مكثّفة لإفساح المجال أمام مشاركة الأطفال وطلاّب المدارس في مناقشة وتطبيق مفهوم التسامح وتفعيله لنخرجه من أروقة المنظمات إلى قاعات الدرس بسواعد من يؤمنون ويحلمون بعالم يسوده التسامح والسلام ثقافة وممارسة.

في منطقتنا العربية والإسلامية قد لا يكفينا تحديد يوم واحد للتسامح لنمحو الآثار النفسية والاجتماعية التي تركها العنف والتطرّف على أبناء الأمة بل نحن بحاجة إلى "عام التسامح"، وليس بالضرورة أن ننتظر من يعيّن لنا سنة خاصة بالتسامح، فلتأتِ المبادرة منا لنحوّل أوطاننا إلى ورشة عمل مكثّفة تنشر قيم التسامح والسلام بمبادرات فردية أو جماعية، محلية وعالمية، بكتابة مقالات وقصائد وقصص وأناشيد وإعداد لوحات ورسومات وجداريات، وباستغلال المناسبات المختلفة، أو الإعلان عن مسابقات إقليمية ووطنية، وتعيين جوائز قيّمة لمن يساهم في أعمال تفضي إلى إعادة الاعتبار لهذا الخلق (التسامح) الذي غُيّب عنّا في سنين اللاوعي وأصبح كالغريب بين أهله، ولننشغل بأمثال ذلك وندع مناقشة مصافحة بيريز أو عدم مصافحته للمطبّعين والمطبّلين.



Friday, February 17, 2012

عن التسامح المنشود


سألني صديقي ونحن في أحد إجتماعات مؤسسي كرسي الدراسات القبطية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (ومن بين مؤسسيه ثلاثة مسلمون هم الأمير طلال بن عبد العزيز ووزير السياحة المصري الأسبق فؤاد سلطان وكاتب هذه السطور): لقد لاحظت في إجتماعاتنا هذه أنك لابد وأن تكون قد طالعت عشرات الكتب عن تاريخ المسيحية في مصر وتاريخ الكنيسة المصرية كما لاحظت أنك تبحرت في مسائل اللاهوت المسيحي بوجه عام وحسب أدبيات المسيحية الأرثوذكسية القبطية .. وكذا معرفتك بالأديرة المصرية - فما الذي دفعك لهذا الإبحار في هذا المجال بهذه الكيفية؟.. قلت: الشعور بالذنب!.. رأيت الدهشة الممزوجة بالتساؤل الحائر في عينيه قبل أن ينطق لسانه بالسؤال: مما؟ قلت: في يوم سمعت شخصاً يتحدث عن خلاف البابا كيرلس الخامس مع كل من بطرس باشا غالي والمجلس الملي وتدخل الخديوي في الخلاف وإتخاذه لموقف مؤيد للمجلس الملي-فشعرت بغصة في حلقي: كيف طالعت مئات الكتب عن فلاسفة من ألمانيا والدانمارك وفرنسا وبريطانيا وكيف طالعت عشرات الكتب عن الثورة الأمريكية وعن الثورة الفرنسية وعن الثورة الروسية وكيف طالعت العديد من الكتب عن كونفوثيوس والصوفيين المسلمين (وبالذات المغاربة والعراقيين)… كيف حاولت ألا أترك مجالاً من مجالات العلوم الإجتماعية والإنسانيات إلا وطوفت به-وهاأنذا أجد نفسي أمام حقيقة مضعضعة: أنني لم أقرأ كتاباً عن تاريخ الكنيسة المصرية.. ولم أقرأ كتاباً عن الخلافات اللاهوتية الكبرى التي أدلت فيها الكنيسة المصرية بدلوها الهام.. ولم أعرف من هو أثناسيوس وما هو دوره في صياغة قانون الإيمان المسيحي… ولم أعرف شيئاً عن أنطونيوس أبو الرهبان في العالم كله.. ولم أعرف شيئاً عن المجامع.. وعن مجمع خلقدونيا بالذات وأثر الإختلاف الذي شقه… ولم أرى ديراً واحداً في أديرة البحر الأحمر أو برية شيهيت (الصحراء الغربية) أو أديرة الصعيد وأشهرها "المحرق" و"درنكة". ولم أعرف من هو المصري من بين مشاهير القديسين…

وكعادتي مع نفسي-إذ آخذها بالشدة والصرامة اللتين لا يكاد معظم الناس يقدرون على تخيلهما-كذلك فعلت-وكانت النتيجة بعد عشرين سنة أنني أصبحت أستقبل الطلبة الذين يعدون رسائل الدكتوراه في تاريخ الكنيسة المصرية أو تاريخ الرهبنة المصرية أو اللاهوت الأرثوذكسي المصري أو الفن القبطي أو تاريخ الأقباط السياسي والإقتصادي والإجتماعي منذ دخول الإسلام مصر لأسلط الضوء على جوانب لم يكونوا عارفين بها… ولأدلهم على مراجع لا ينبغي لهم ألا يكونوا مطلعين عليها.

سألني محدثي:وماذا كان أثر ذلك عليك؟ قلت: أنني أصبحت على دراية جيدة بقرون من تاريخ وطني (مصر) وبعناصر أساسية من عناصر تكوين التاريخ المصري والشخصية المصرية… وأهم من ذلك أنني تخلصت تدريحياً من أية رقائق من التعصب قد أكون عشت بها سنوات.

سألني محدثي في دهشة: وهل تنتظر أن يفعل كل مصري ذلك لكي نتخلص من التعصب؟ قلت: لا… أنتظر ذلك من خاصة المثقفين والنخبة التي تسمى بالإنتلجنسيا. هؤلاء هم الذين سيجبرون برامج التعليم على أن تزرع في عقول وضمائر أبناء وبنات هذا الوطن (مصر) الإحترام الأصيل لمعتقدات الآخرين… والتعايش البناء مع التعدد… مع قدر معقول من التعرف على "الآخر". أنا لا أتوقع أن يعرف المصري المسلم العادي معنى أن يرفع السيد المسيح في أيقونة إصبع واحد (ترجيح نظرية الطبيعة الواحدة) ومعنى أن يرفع إصبعين (ترجيح نظرية الطبيعتين التي تأخذ بها الكنيسة الكاثوليكية).. ولكنني أن يعرف ذلك (وكثير غيره) كبار المثقفون وقادة الفكر… وهؤلاء هم الذين يبثون قيم قبول الآخر والتسامح الديني والثقافي والتعايش الإيجابي مع التعددية… وفي نفس الوقت فإن هؤلاء هم الذين سيدمرون مؤسسة مُلاَّك الحقيقة المطلقة.

إن التعصب وعدم إحترام حق الآخرين في الإختلاف هو من جهة من ملامح العقل البدوي الذي غزا بثقافته (أو ببعض ثقافته) الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية وتسلل لها من عدة طرق مثل أبناء هذه المجتمعات التي ألجأتها ظروف الحياة للعمل عند البدو… ومثل إمتلاك البدو للمحطات الفضائية.. وكذلك للصحف والمجلات… بفضل "البترودلار" والذي جعل رجلاً مثل السعودي (من أصل حضرمي)"ص.ك" من "قادة الإعلام" في بلد أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى (يقف شعر رأسي وانا أكتب تلك الحقيقة)… كما أن التعصب ينتقل من "الطبقة القدوة" أي رموز المجتمع في كل المجالات.. وأخيراً فإن مؤسسة التعليم هي إما باذرة بذور التعصب في القول أو باذرة بذور السماحة والتآلف والتعايش مع الإختلاف والتعدد.

Friday, February 10, 2012

ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف




بات من المؤكد والضروري أن نشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف حاجة أساسية وملحة وخاصة في ظل هذه الظروف الحساسة والحرجة التي نمر بها من كافة النواحي التي نحن فيها، ويجب زرع هذه الثقافة في نفوس وعقول الجيل النشء، لأنها تساهم بشكل فعال في خلق جيل واع قادر على تحمل أعباء المسؤولية وقيادة المرحلة القادمة بشكل ايجابي وسليم، لأن مثل هذه الثقافة تشكل ترسيخاً قوياً لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الربح والخسارة.
لأن الثقافة بشكل عام هي ثقافة إنسانية، لذلك لا توجد ثقافة عديمة القيمة كلياً، أو ثقافة كاملة مكملة تحتكر الحقيقة الإنسانية وتختزل ثراء الوجود وتمتلك حق فرض معاييرها وايديولوجيتها وأجندتها السياسية على الآخرين ، بما في ذلك الليبرالية التي تعيش أبهى أيامها وأكبر انتصاراتها. لذلك نرى بأن السبب الكامن وراء الاستقرار النسبي والغنى الثقافي لمعظم المجتمعات الغربية يعود بالضبط إلى حقيقة أنها لا تعتمد على عقيدة سياسية وحيدة أو وجهة نظر واحدة للعالم.
ولا يتحقق التسامح وقبول الآخر، إلا بالحوار والتواصل، والمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار، لأن إقامة حوار بناء، وخلق فضاء للنقد والفكر المستقل يسود المجتمع حالة من الاستقرار والسلام والتعايش مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه.
وإن الحوار والتواصل دائماً وأبداً هو الطريق الصحيح لحل كافة القضايا العالقة، وهو البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، وبالحوار نحافظ على التواصل والمحبة والسلام، ونعمق معاني الديمقراطية والتعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرد الدعوة إليه دون اتخاذ خطوات عملية تترجم ما اتفق عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتنمي الثقة بين المتحاورين، فإذا لم يطمئن المتحاورين إلى المصداقية في إجراء الحوار، وإذا لم تستبعد العوائق والموانع فيصبح الحوار بدون غاية أو هدف، أو مجرد حوار من أجل الحوار.
إن المجتمع المتجانس ثقافياً يتمتع بقوة مميزة خاصة به، ويخلق مناخاً تشترك فيه الثقافات المختلفة لحوار مثمر يعود بالنفع على الجميع، ويساعد على إقامة حس مجتمعي تكافلي، وبذلك يسهل عملية التواصل الداخلي بين أبناءه، ويغذي ثقافة كثيفة متماسكة ويمدها بأسباب الحياة.
وإن قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أي سبب آخر، وطالما أن الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
وإن التسامح والديمقراطية لهما اتجاهان أي اخذ وعطاء وتفاعل ايجابي مع قيم إنسانية جديدة بعيدة عن روح التعصب والكراهية وشطب الآخر المختلف.
حيث إن غياب الديمقراطية تنعدم إمكانية تكافؤ الفرص في التعبير عن الرأي, وإن غياب العدالة السياسية تنقطع فرص الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع, وإن غياب سلطة القانون يقع الضرر على الجميع بدون استثناء.
هنا أود أن أشير إلى مسألة جد مهمة وهي: قضية الحجاب عندما أثير من قبل الحكومة الفرنسية العلمانية، فتح باب الحوار واسعاً أثنائها على مصراعيه بين جميع مكونات المجتمع الفرنسي، فقد كان باستطاعة الفرنسي أن يقول إن الحجاب يستفز مشاعره الدينية أو مزاجه الشخصي، وبالتالي يقف بدون تحفظ ضد الحجاب ويطالب بمنعه، ولكن وجود دستور معترف به من قبل الجميع وهذا الدستور يحترم لكل إنسان حقوقه الشخصية جعل المنع صعباً.
وفي المجتمعات الغربية توجد مئات من المجلات والكتب والجمعيات والهيئات والمواقع التي تمارس النقد المعرفي للدين، ويتقبلها الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي برحابة صدر، دون أن يضيق بها أحد أو يدعو إلى الحد من حريتها، أما في مجتمعاتنا فيواجه النقد المعرفي للدين بالرفض والاستهجان، بل وبالدعوة إلى محاكمة من يمارسه بحجة إهانة (للمشاعر الدينية وللمقدس).. لأننا لم نصل بعد إلى أمر هام وهو أنه في النقد المعرفي لا توجد مقدسات تعلو على النقد.
إن مثل هذه الثقافة مفهومة، لأنها رد الفعل الطبيعي لمن لم يتعلم بعد ثقافة الاختلاف والتعددية الفكرية، ولم يعتد على قبول الآخر المختلف، ولذلك من الطبيعي أن نسمع من يصف النقد المعرفي للإسلام وبنيته الفكرية بأنه إهانة للمقدسات.
ولكن غياب ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف هو من أكثر عوامل الواقع الذي يعاني منه مجتمعنا في الوقت الحاضر، وهذا يمثل مسؤولية يجب أن يضطلع بها الجميع من قوى سياسية ومنظمات مجتمعية ومؤسسات ثقافية وحتى علماء دين، ولكن بعض ما تم ذكرها هو فاقد لما عليه أن يعطيه للمجتمع، وحيث أن فاقد الشيء لا يعطيه بأي حال من الأحوال.
وإن الاعتراف والإقرار بثقافة التسامح وقبول الآخر والاعتراف به هو أمر جيد ومقبول نظرياً ولكن يجب العمل والنضال من أجل ترسيخ قيمة هذه الثقافة وتطبيقها في الحياة اليومية بشكل يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء. 
من أجل العمل على نشر هذه الثقافة لا بد من اتخاذ بعض الخطوات العملية في هذا المجال ألا وهي: 
- تبني برامج علمية وذلك لتنمية وعي مجتمعي... 
- وضع مناهج تعليمية جديدة لإعداد جيل واع قادر على تحمل أعباء المرحلة... 
#- إيجاد أدوات إعلامية متطورة على جميع الأصعدة... 
#- نبذ كل أشكال التطرف والتخلف والتشدد في المجتمع عن طريق إقامة دورات تعليمية وندوات تثقيفية... 
إن فكرة التسامح وقبول الآخر، واللجوء إلى الحوار وإلغاء فكرة شطب الآخر والثأر وإناطتها بالقانون، يعتمد على استعداد الأطراف التي تريد بناء مستقبلها على أساس تغليب المصلحة العامة على الخلافات الشخصية والمشاعر الدفينة البعيدة عن التعقل والتروي في نتائجها.
وهنا لا بد من الإشادة إلى بعض الشخصيات التاريخية المتسامحة: 
- المهاتما غاندي: صاحب سياسة المقاومة السلمية (فلسفة اللاعنف) وتسامحه ومن أقواله:
"أين يتواجد الحب تتواجد الحياة."
"إن اللاعنف هو القوة العظمى لدى الإنسان. وهو أعظم من ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرة على التدمير."
توفي مقتولاً برصاص شخص هندوسي متعصّب لم ترق له عظمة التسامح الغاندية.
- القائد الكردي الخالد مصطفى البرزاني صاحب الشخصية الكارزمية والمعروف بتسامحه وتعامله الإنساني مع الأسرى، فعبر ذات مرة بصريح العبارة عن إستراتيجيته العسكرية قائلاً: ( إن عقيدتي هي تحقيق مطالب شعبي وأن أفدي روحي في سبيل قضيتي .... وان حزبنا ليس ضد العرب ولا ضد أي قومية أخرى، ولا نشارك في ثورة من أجل اسم أو شهرة، إن العرب والأكراد أخوة، ولا يجوز التفرقة بين الأخوة، إننا لم نهاجم أحداً بل ندافع عن حقوق شعبنا الكردي ).
- بابا الفاتيكان والكاثوليك المسيحيين في العالم يوحنا بولص الثاني: تعرض لحادثة اغتيال عام 1981 من قبل تركي متعصب يدعى (علي أقجا ) فخرج على أثرها بجروح بالغة، وادخل المستشفى واخضع لعمليات جراحية كادت تودي بحياته، لكنه بالرغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه وأخلى سبيله بكل رحابة صدر !!!
وبالرغم هذا وذاك نلاحظ أن هناك تصميماً واضحاً لدى كافة المهتمين والغيورين على حرية الإنسان وحقوقه المشروعة في الاستمرار بالعمل والنضال الدؤوب وبالوسائل المتاحة والممكنة في نشر هذه الثقافة مهما كانت الضريبة، وبفضل العولمة والتقنية الحديثة، لا يمكن لأي مجتمع اليوم عزل نفسه عن المؤثرات الخارجية، خصوصاً مع انتقال رأس المال والتكنولوجيا والقوى العاملة والأفكار وما إلى ذلك بحرية عبر الحدود الإقليمية وبالتالي إنتاج صيغ جديدة للتفكير والحياة.

Friday, February 3, 2012

من اجل ترسيخ ذهنية التسامح



ظهر مفهوم التسامح منذ أمد في الفكر العربي، مما جعله ينتمي إلى الإشكالية المحورية التي ارتبطت بالطور الثاني وقد تمركزت مباحثها حول دراسة أسباب الهزيمة: هزيمة حزيران 1967 , وهزيمة الدولة الوطنية في بعض الأقطار العربية لإنجاز أسباب التقدّم والتنمية وتحرير الإنسان وعقلنه الفكر، والارتقاء بالثقافة لتكون مرآة يظهر عليها المنجز الحضاري والمعرفي والحقوقي والتقني، وتميهداً له في الآن ذاته، وقد نجم عن ذلك تفكير نقدي في "التراث" هذا المفهوم الإشكالي الذي اخترق بقوة الخطاب العربي منذ أواخر الستينيات إلى حدود زمننا هذا وطرحة العلاقة بين التراث والحداثة فظهر الحديث عن المفاهيم العقلانية والقيم الفكرية العلمية والتاريخية النقدية أو الإنسانية الخلقية التي تضمنتها مؤلفات المفكرين، والأدباء، والفلاسفة، والعلماء العرب، أو ارتبطت بسيرهم، وفي هذا السياق برزت المشاريع الفكرية النظرية المتعلّقة بقراءة التراث العربي والبحث في إمكانات جديدة. محكوم بالنظر في الثنائيات ومنها: التراث/الحداثة. الأصالة/المعاصرة. السلفية/التقدمية. العقلانية/الدغمائية (أو اللاعقلانية). العقل/الخيال. العلم/الأسطورة. الحداثة/القدامة. التسامح/التطرّف. قصيدة النثر/ القصيدة العمودية....ولعله كان لأحداث 11 سبتمبر 2001 وللحرب سنة 2003 -ولتأزم أوضاع القضيّة الفلسطينية ولتصاعد عمليات العنف والإرهاب والاستشهاد في شتى أنحاء العالم تعبيرا عن حقوق ضائعة، واحتجاجا عن أوضاع قائمة- الأثر البارز في مسارات الفكر العربي المعاصر من جهة طبع أطروحاته واهتزاز مواقفه وتحولها إلى حد بدا معه أنه يحيا وضعا قلقا، وإشكاليا تجاه الوعي بالذات والموقف من الآخر أو ضبط أطر التواصل وآليات العمل وما يرافق ذلك من بناء للتصورات والرؤى وتحديد آفاق القول والعمل
هنا تأتي الايدولوجيا التي تتفاعل مع التغير على سبيل التوظيف والتجيش والاحتراب او على سبيل التعايش والتسامح ؟ 
وهناك نمطان من الثقافة ؛ الأولى:مرفوضة ، والأخرى: مقبولة ، إما المرفوضة فهي :
الأيديولوجية الشمولية : لقد أخذ هذا النمط من الأيديولوجيات بالزوال ، ونحن نعيش عصر زوال الأيديولوجيات (أعني به العصر الذي طغت فيه المذاهب الشمولية أو النظريات الكبرى ، ومشاريع الطوبة التي وعدت بإقامة فردوس أرضي يستعيد أو يمارس فيه الإنسان حريته ويبلغ كفايته , ويحقق سعادته لقد تزعزعت اليقينيات المطلقة والثوابت الراسخة والقبليات ، وأصبحنا الآن على عتبة عصر جديد لمصلحة نظرة جديدة أقل إطلاقا وثباتا .أما الوجوه السلبية لهذا النمط من الأيديولوجية فهي
إن هذا النمط يطغي فيه الوجه السلبي على الإيجابي ، بمعنى إنها قد تفلح في أن تزين للمضطهدين أن في مقدورهم تحرير أنفسهم وتبديل أحوالهم ،لما هو أحسن .و بهذا تتمكن من تعبئة الجموع المؤدلجة في إسقاط الاستبداد ، وهذا أقصى ما تستطيعه يكمن في الاستيلاء على السلطة إنها يوتوبية تحقق الاندفاع والتهيج وقد تحقق التغيير وتكسر السائد المهيمن المسوغ للسيطرة ، إلا أنها أيضاً تترك آثاراً مدمرة اقتصادياً وإنسانياً بما تخلفه من ضحايا سواء كانوا من المؤمنين بها أو من غير المؤمنين .لكن ماذا بعد ذلك ؟
فهي لا تستطيع بناء النظام البديل الذي يتجاوز نواقص القديم ، لكن هذا الأمر بحاجة إلى رؤية عقلانية واسعة لا أيديولوجية طوباوية مشبعة بالعداء الذي يستبدل الاستبداد والعنف بآخر جديد ، لعل هذا هو السبب في أن أغلب الثورات تفشل في الربط بين اليوتوبية الدافعة للثورة والمشروع الأيديولوجي السياسي لأن الأخير بحاجة إلى رؤية عقلانية ولعل هذا أيضاً ما أجج كثيراً من الثورات وجعلها تلتهم أبناءها .
إن هذه الأيديولوجيات لم تزل القهر ولم تحقق الحرية ، بل إنها أوغلت في بناء آليات القهر ومعسكرات التعذيب والمقابر الجماعية وآليات التضليل والتزييف على مختلف الصعد والأشكال .
إنها لم تنتج نظاماً تعددياً مثلما رفعت من شعارات ، بل إنها عملت على توحيد اللغة وقولبة السلوك وتدجين العقول مما جعل مصير أغلب الثورات معروفا و هو إقصاء الخصوم إلى معسكرات الاعتقال أو إلى المقابر أو التهجير إلى الخارج .ومرد هذا إنها لم تتجاوز النسق الذي ترسب في الأنا الجمعية ،هذا النسق غير المفكر به القائم على ذهنيه التفرد والذي يمتد عميقاً في الذهنية الجمعية .وإنها أيضاً لم تنتج واقعاً بديلا حرا غير مؤدلج ، يتسم بالمرونة والانفتاح والابتكار وهذا يتطلب خلق مؤسسات جماعية يمكن الاحتكام لها لا إلى الذهنية الفردية للفرد أو الطائفة أو الحزب ، بل إنها على الضد من ذلك تماماً تمركزت مما جعلها تسقط في العماء الأيديولوجي الذي يتحول فيه الفرد حاكما يمارس دوراً بطولياً تخيلياً يستعيد أنساقا هاجعة في الأنا الجمعية تعود إلى أسباب" سوسيو ـ سيكولوجية" تمس هذه الأنا في طبيعة تكوينها التاريخي تعود إلى قوة ماضيها الذي يلتهم حاضرها . عبر مقولة الشخصية المركزية الرمزية في وجدان الجماعة السياسية لأنها مشغولة إلى حد يومنا هذا بالبحث عن القائد / المعلم / المنقذ من الضلال .
إنها لم تعدم خلق أيديولوجيات بديلة ترفع النضال ضدها دينية / قومية / مذهبية .. الخ ؛ فبوجود وأناس مهزومين مقهورين لا يمكن أن يتوقف المجتمع عن خلق أيديولوجية تدميرية جديدة ، لإنه المجتمع المرشح للعنف بأشكاله وأدواته، والمتقبل لكل الأفكار والإيديولوجيات التي تخاطب جمهور المحرومين والمقموعين. فالفقر لا يقود إلى الاستقرار، والبطالة والعطالة لا تؤديان إلى الأمن، بل إلى بروز حالات التمرد والعنف لإنهما الأرضية الاقتصادية - الاجتماعية.
إن الأيديولوجية من خلال تمترسها واحتكارها للمعنى والسلطة خلقت آخرين في الداخل والخارج هم أيضاً لهم المطالب نفسها ؛أي: السلطة وبذات المنطلق تعتمد وسائل القهر والعنف والمواطن والوطن أكبر الضحايا فيها 
اما الأيديولوجية المقبولة فهي 
إن الأيديولوجية حالة لا يمكن عزلها وإزالتها فلابد من البناء على الإيجابي منها واحتواء السلبي منها .أيديولوجيا تقوم على اللاعنف والتسامح والتعدد والتداول السلمي للسلطة على أساس إن هذا البلد يتكون من فسيفساء عرقية ودينية ومذهبية استطاعت أن تتوحد وتتعايش مئات السنين . هناك دعوات ومحاولات لتفجير المخزون التاريخي للانقسام والفرقة ، واستدعاء النزعات العصبية من الماضي السحيق من أجل تحطيم وحدة الجماعة في العراق من أجل خلق تجربة جديدة تستجيب لحاجات العراق لابد من إشاعة مفهوم التسامح ، والعمل على ترسيخ روح التعايش بوصفهما الطريقين اللذين سوف يحققان النفاذ من هذا الخانق