هناك مثل عربي شائع يقول إن الصلح خير. ومن المؤكد إن الصلح خير إذا كان هدفه التوفيق بين الناس وإزالة الضغينة من النفوس، وإعادة السلام بين المتخاصمين. ولكن لكي يصبح الصلح خيرًا يجب أن يتوافر فيه ركنًا هامًا وهو العدل بين الأطراف المتنازعة. وان لم يكن هناك عدل يكون الصلح مبنيًا على الظلم، والظلم لا يمكن أن يكون خيرًا.
من ذكرياتي أيام الدراسة في المرحلة الإعدادية أن طالبًا مسلمًا تشاجر مع طالب مسيحي وسب له الدين. وكان مشرفًا على فصلنا مدرس اللغة العربية الأستاذ"محمد عوض". وبعد دخول المدرس للفصل وقف الطالب المسيحي يشكو ما حدث له موجهًا الكلام للمدرس قائلا: يرضيك يا أستاذ عوض إن الطالب (فلان) يشتمني بالدين؟ وهنا جاء رد المدرس قاطعًا بدون تردد وباللغة العربية الفصحى: لا.. هذا لا يرضيني. وبعد التأكد من صحة ما حدث أمر المدرس الطالب المسلم أن يمد يده ليأخذ عقابه، وألقى عليها المدرس أول ضربة. كانت الضربة مؤلمة جعلت الطالب يصرخ. وأحس الطالب المسيحي بصرامة العقاب، فحاول أن يوقفه بأن قال للمدرس انه قرر أن يسامح الطالب المذنب. ولكن المدرس رفض وقال له: حتى لو تركت أنت حقك فالعدل يجب أن يأخذ حقه، واستمر في تنفيذ العقوبة حتى النهاية.
كانت هذه أول مرة أسمع فيها طالبًا يسب الدين لطالب آخر، وكانت أيضا آخر مرة. كان هذا طبعا أيام الزمن الجميل وقت أن كان مجرد الاهانة الشفوية يعتبر تجاوزًا يرفضه المجتمع. ولكن الآن طغى التعصب الديني وتعدى الاهانة بالكلام إلى أعمال العنف الدموي. وتطور رد فعل المجتمع فبدلاً من رفضها وإدانتها رأينا كثير من الناس يؤيدونها، وأحيانًا يشاركون فيها ورأينا السلطات لا يضيرهم إن هرب الجاني من القصاص، مستخدمين في ذلك أساليب متعددة منها ما يسمى بمجالس الصلح العرفية.
مجالس الصلح العرفية شائعة في أرياف مصر منذ زمن وتستخدم من المسئولين لفض العداوات بين الناس وخاصة بين المسيحيين والمسلمين. وآخر قضية استعملت فيها كان بعد حادثة قطع أذن مواطن مسيحي على يد متطرفين سلفيين في مدينة قنا.
كان المواطن المسيحي"أيمن أنور ديمتري" قد أجّر شقة يمتلكها إلى فتاة مسلمة قادمة من أسوان، وبعد أن تطايرت الشائعات إن الفتاة سيئة السلوك حاول"أيمن" فسخ العقد ولكنه لم يستطع لأسباب قانونية. وفى الفجر تلقى"أيمن" مكالمة من جيرانه بأن شقته المؤجرة تشتعل فيها النيران رغم عدم وجود الفتاة فيها. وبعد إطفاء النيران قرر أن يبيت فيها حفاظًا على ما تبقى من محتوياتها. ولكن الرجل فوجئ في اليوم التالي بأحد المتطرفين بقرع على باب الشقة، ويأمره بالنزول إلى الشارع وبالاشتراك مع أتباعه اعتدوا عليه بالضرب. ثم طلبوا منه استدعاء الفتاة التي بعد أن جاءت أرغموها على الاعتراف بعلاقة آثمة معه. وبعد ذلك قاموا بتحطيم محتويات الشقة ثم قطعوا أذن الرجل واحرقوا سيارته.
ورغم عبارات الاستنكار والإدانة من كبار المشايخ بان إقامة الحد هو من سلطة الدولة وحدها، ورغم أن النيابة كانت قد قبضت على الجناة وبدأت إجراءات التحقيق في القضية، ولكن الأمر انتهى بعقد جلسة مصالحة بين الأطراف بحضور نائب الحاكم العسكري بقنا. وكان من بنود هذا الاتفاق الاحتفاظ بسريته وعدم الإفصاح عنه لأحد.
وهناك عدة أسئلة تفرض نفسها فى هذه الحادثة:
أولا: أين حقوق المجني عليه؟
هل من العدل أن يستغل ضعف المجني عليه لفرض بنود صلح غير عادل عليه؟ أليس واضحًا أن الرجل تم الاعتداء عليه جسديًا، وأصابوه بعاهة مستديمة بقطع أذنه واعتدوا على ممتلكاته فحرقوا سيارته وحطموا شقته؟ ألم يكن واضحًا انه قُبل الصلح في غياب حماية له ولأسرته أن طالب بحقوقه؟ وأليس اشتراط عدم الكلام في بنود الصلح هو إمعان في الظلم؟ أليس هذا تطبيقًا للمبدأ الذي يسمح بالضرب ولكنه يحرم البكاء؟
ثانيا: أين حقوق المجتمع؟
إن أحد مقومات المجتمعات الحديثة هي إقرار العدالة في أركان المجتمع. وحتى إذا قرر المجني عليه التفريط في حقه المدني سواء عن رضا أو اضطرار، ولكن حق المجتمع الجنائي لا يمكن لأحد أن يفرط فيه. أن حق المجتمع في الاقتصاص من أي إنسان أخل بقواعد العيش فيه باق، ويجب استيفائه كاملاً وإلا فقد المجتمع أمنه وأمانه.
ثالثا: أين هيبة الدولة؟
بات واضحًا إن نظام الصلح العرفي هو إجراء تلجأ له الدولة لأنها عاجزة على إجبار المواطنين على احترام الشرعية وتنفيذ القانون. وهو نظام قبلي لا يتمشى مع دولة المؤسسات الحديثة. وكان هذا ظاهرة اتسمت بها المعاملات بين المواطنين طوال حكم الرئيس السابق. وكنا نتوقع أن يتغير هذا بعد قيام الثورة. ولكن للأسف يبدوا أن الذي تغير هو الأشخاص فقط أما النظام فهو باق معنا، ويبدوا أن الكلام عن دولة المؤسسات هو شعارات براقة لا أساس لها من الصحة. فما زالت هناك جماعات البلطجة التي تقبض على الناس وتحاكمها طبقا لمبادئها المتطرفة وتنفذ الحكم على أهوائها. والمصيبة أنهم بعد ذلك يهربون من العقاب ويظلوا طليقين ليرهبوا ويروعوا الآمنين، الذين لا خيار أمامهم سوى أن يخضعوا لابتزازهم وبلطجتهم.
وبعد.. ليس هذا المقال محاولة لتبرئة أو إدانة الرجل الذي اعتدى عليه إذا كان قد اقترف مخالفة قانونية، وكان يمكن الإبلاغ عن أي مخالفة يشتبه انه ارتكبها للسلطات. ولا يختلف الأمر كونه مسيحيًا أو مسلمًا أو بهائيًا أو ملحدًا. المشكلة التي أمامنا أن هناك فريق من المواطنين يظنون أنهم يستطيعوا أن يأخذوا القانون بيدهم ويقوموا بدور رجال البوليس والقاضي والجلاد لغيرهم من المواطنين. والمشكلة الأكبر أن السلطات لا يقلقها هذا الآمر بل تقبله وتقبل معه إجبار الضحية أن يتصالح مع الجاني، تاركًا كل حقوقه ثم يذهب الجاني دون مساءلة.
يحدث هذا مع إننا نعيش في ثورة المفروض أنها جاءت لتقضى على الفساد وتعطينا العدالة والأمن والحرية والديمقراطية وكل القيم الجميلة!!
طيب بأمارة إيه
No comments:
Post a Comment