كنيسة أخرى تحترق وفتنة طائفية جديدة تطل برأسها القبيح، هذه المرة فى أسوان. الوقائع كالعادة غير واضحة ولكن النتيجة واحدة، وهى أن وحدة المجتمع ــ أغلى ما نملك الآن ــ تتعرض لنكسة جديدة، ولا يوجد لدينا ما نقدمه سوى المزيد من البيانات والتنديد. كل حادث طائفى فى مصر ينتهى بنفس الطريقة، استنفار بين المثقفين والمعلقين وشحذ للهمم للتأكيد على وحدة عنصرى الأمة. ولكن للأسف أن هذا الحماس لا يأتى بنتائج مفيدة ولا بتغير حقيقى فى تعاملنا مع المشاكل الكامنة، بل لعله يدفع إلى تجاهلها بعد قليل وتأجيل التعامل معها
فإما أن فى مصر مشكلة طائفية فهذا لا يحتاج لأدلة كثيرة. العنف الطائفى الذى يظهر من وقت إلى آخر، التباعد فى كثير من مظاهر الحياة اليومية، تعامل كل طرف مع المستشفى والمدرسة والطبيب والبقال من ذات الملة، انسحاب المسيحيين من الحياة العامة، وعدم فهم كل فريق بديانة وعقيدة الفريق الآخر. ولأن الجهل يولد الريبة والتوجس، فكلما ابتعد عنصرا الأمة عن بعضهما البعض فى مختلف مناحى الحياة، توافرت أسباب الفرقة والتوتر الطائفى
من أين جاء هذا التباعد وهذه الفرقة؟ فى اعتقادى أنهما نتيجة حتمية للاستبداد الذى ساد فى مصر، ليس فقط فى الثلاثين عاما الماضية، بل لمئات السنوات. الحكم المستبد فى كل بلدان العالم وفى كل عصر يبرم عقدا سياسيا مع الأقليات الدينية مضمونه الآتى: «اتركوا الحياة العامة، ابتعدوا عن السياسة، لا تتدخلوا فى القضايا السياسية والصراع على السلطة، وأنا كفيل بحمايتكم وصون حقوقكم وإعطائكم قدرا معقولا من الحرية والأمن». هذا عقد سياسى قديم، استعان به العباسيون والمماليك والدولة العثمانية، كما استعان به الاستعمار الأوروبى فى بلدان العالم الثالث، وديكتاتوريات أمريكا الجنوبية فى القرن الماضى. وكذلك استعانت به الدولة المصرية الحديثة. الدولة تتدخل بحسم وصرامة فى أعقاب كل حادث طائفى ولا تسمح بأن يتجاوز التوتر درجة معينة. ولكن فى المقابل، صار الملف الطائفى ملفا أمنيا، وخرج المسيحيون فى مجموعهم من ساحة العمل العام، واقتصر التمثيل السياسى المسيحى على خمسة أعضاء معينين فى مجلس الشعب ومحافظ ووزيرين، وعلى حضور رأس الكنيسة لجلسات افتتاح مجلسى الشعب والشورى والاحتفالات الرسمية الكبرى. وتم الاتفاق على عدم استخدام كلمة «أقلية» لوصف المسيحيين فى مصر ــ برغم أنها كلمة ذات دلالة رقمية سليمة ــ تأكيدا على أن الوطن لا يفرق بين مسلم ومسيحى، ولكن بشرط التزام المسيحيين بموقعهم داخل الكنائس وتركهم للساحة العامة. هذا النمط الاستبدادى فى التعامل مع الأقلية الدينية كان يستلزم أيضا إشاعة جو من الرعب من التيار الإسلامى، بل ومن الفكر الإسلامى، لأن شرعية النظام فى البقاء ارتبطت أيضا باستمرار خوف الأقلية من الأغلبية، واعتمادها على الحماية الوحيدة التى يقدمها النظام المستبد ولو بشروط باهظة. صحيح أن هناك العديد من القيادات والرموز المسيحية التى لم تقبل هذا التحجيم والشروط المجحفة ورفضت ترك الساحة العامة، فدخلت انتخابات مجلس الشعب وخسرت بشرف، واحتلت مراكز قيادية فى أحزاب المعارضة وقامت فيها بأدوار حقيقية لا شكلية، وأسست جرائد وأحزابا ومنتديات. ولكن النظام كان لهم دائما بالمرصاد لأنهم يهددون العقد السياسى الذى ينهض على تمثيل رمزى للأقلية وليس على مشاركة سياسية حقيقية
ولأن إقصاء الأقلية عن العمل السياسى من سمات الحكم المستبد، فإن تغيير هذا الوضع يأتى عادة بمناسبة نمو حركات التحرر من الاستعمار أو من الاستبداد كما حدث فى العالم العربى خلال الخمسين عاما الماضية. تأملوا الدور الذى لعبه مسيحيو العراق وسوريا ولبنان فى حركة القوميين العرب، ثم فى حزب البعث وقتما كان يهدف للتحرر، وتذكروا الدور المسيحى فى تأسيس ونشاط منظمة التحرير الفلسطينية فى الستينيات والسبعينيات، والدور الرائد لأقباط مصر فى الحركة اليسارية طوال القرن الماضى. نجاح هذه الثورات والحركات فى جذب الجماهير وفى التعبير عن مطالبها ارتبط برفض الأقليات الدينية الاستمرار فى العقد السياسى الذى يمنحها الأمان مقابل السكوت
فإذا كنا فى مصر على أعتاب عصر جديد تسوده الحرية، فما عواقب ذلك على الوضع الطائفى؟ البداية كانت مبشرة. فقد خرج المسيحيون فى مصر منذ مطلع الثورة وشاركوا فيها على نحو جاء متعارضا مع ما توقعه النظام السابق. المسيحيون كانوا منذ اليوم الأول فى التحرير، وفى موقعة الجمل، وعلى كوبرى قصر النيل، وفى الجيزة والسويس والإسكندرية. والجدل الذى ثار داخل المجتمع المسيحى والكنيسة حول المشاركة فى التظاهر، حسمه الشباب بنزولهم بالفعل ورفضهم أن تمر هذه اللحظة التاريخية دون مشاركة حقيقية وفعالة منهم. واستمر زخم المشاركة المسيحية فى العمل العام من خلال الأحزاب الجديدة ومن خلال الندوات والمؤتمرات والتظاهرات، وكان هذا واحدا من أهم إيجابيات ثورة يناير
ولكن مع الوقت بدأت بوادر التراجع تظهر مرة أخرى. فبعد أيام قليلة من الثورة، شهدنا ظاهرة «ماسبيرو»، والتى جاءت لتجسد شعور جانب واسع من الأقباط بأنه ما أن سقط رأس النظام وتحققت للثورة بعض مطالبها السياسية الرئيسية حتى انفضت روح الوحدة الوطنية، ولم يجد الأقباط دعما كافيا من القوى السياسية التى وقفوا معها. هذا الشرخ فى صفوف الثورة حدث مبكرا وفى تقديرى أنه لايزال مستمرا، وسوف يستمر ما لم تعد القوى والأحزاب الوطنية إلى الاهتمام بهموم ومطالب المسيحيين وإلى اعتبارها جزءا أساسيا من برنامج الإصلاح الوطنى، ليس فقط فى أعقاب الحوادث الطائفية ولكن بشكل منظم ومستمر. وإذا رغبنا ألا يعود المسيحيون إلى انزوائهم السياسى، وأن تستمر مشاركتهم فى الحياة العامة، فعلينا ألا نتركهم بمفردهم فى مواجهة التطرف من جانب ولا فى مواجهة الحكومة والشرطة من جانب آخر حتى لا تتحول الحكومة إلى الحارس الوحيد والضامن لحقوقهم ولأمنهم، بل علينا أن نعى أن وقوف المجتمع كله بجانب مطالب وهموم المسيحيين وبجانب المواطنة الكاملة ورفض التمييز مطلقا هو السبيل الوحيد لكسر العقد السياسى الذى يستهدف تحييدهم وعزلهم وابتعادهم عن الساحة العامة
ثم تراجعنا خطوة أخرى حينما تعاملت الدولة مع الأحداث الطائفية والاعتداءات على الكنائس على استحياء لم يتجاوز إعادة بناء ما احترق منها دون محاسبة المسئولين، وحينما وعدت بإصدار قانون ضد التمييز الدينى خلال شهر من أحداث أطفيح مر عليه خمسة أشهر دون أن يتحقق. حتى التمثيل الشرفى لمحافظ واحد والذى حافظ عليه النظام السابق تلاشى، بينما انخفض التمثيل الوزارى إلى درجة وزير دولة واحد. والأخطر من ذلك أن الحديث عن أى إصلاح حقيقى فى القوانين المنظمة لدور العبادة، والتمييز، والأحوال الشخصية، وشغل الوظائف العامة، وغير ذلك من القضايا الأساسية قد تراجع تماما. بل إن رد الفعل تجاه حرق كنيسة أسوان يهدد بمرحلة جديدة، يتم إلقاء اللوم فيها على الضحية وتبرير الاعتداء بأنه كان تطبيقا للقانون من قبل المواطنين بعدما عجزت الدولة عن التدخل
مع ذلك فالوقت لم يفت، ولا نزال أمام فرصة تاريخية لكى يعود المسيحيون فى مصر للمشاركة الكاملة فى العمل السياسى وفى الحياة العامة. على المسيحيين أن يرفضوا التهميش مرة أخرى، وألا يقبلوا عقدا سياسيا جديدا يحقق لهم حماية واهية وحقوقا منقوصة مقابل السكوت والانزواء. كذلك فعلى جميع القوى السياسية ألا تتركهم فريسة للاستبداد مرة أخرى، وأن تتبنى مطالبهم العادلة، المبنية على مواطنة كاملة غير منقوصة ولا مشروطة، وأن تجعل من هذه المطالب جزءا لا يتجزأ من برنامج الإصلاح الوطنى. فالوحدة الوطنية لن تتحقق بالتنديد بالأحداث الطائفية ولا بتعانق الهلال مع الصليب فى الاحتفالات الرسمية، وإنما باستمرار مشاركة عنصرى الأمة فى العمل السياسى على قدم المساواة، من أجل وضع وتنفيذ برامج إصلاح سياسى واجتماعى لصالح مصر كلها
No comments:
Post a Comment