عام 1761 في مدينة تولوز بفرنسا قام أب متهور بقتل ابنه لأنه أراد أن يتحول من البروتستانتية و هي عقيدته الأصلية إلى الكاثوليكية فيما يسمى بحادثه " كالاس Calas " و قد اهتم " فولتير" كثيرا بهذه القضية مبينا ضرورة التسامح الديني و الحريات الدينية قبل ان تزدهر هذه القيم و تنتشر في فرنسا و تدعهما قوانين ما بعد الثورة لتي حفظت الحريات الدينية للمواطنين و وضعت العقل على رأس المبادئ الأساسية لبناء الدولة الفرنسية ألحديثه.
و لا يمكننا أن ننكر أبدا أننا بالرغم من مرور نحو قرنين و نصف على حادثه كالاس فإننا مازلنا نفتقد و بشده قيم التسامح الديني في مصر التي اختفت تدريجيا منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن و رغم الكثير من المحاولات لوضع و ترسيخ مفهوم التسامح الديني إلا أنها تاهت وسط موجات من التعصب الديني التي تأتى من خارج مصر محمله في عقول المصريين العائدين من دول تحتضن هذه الأفكار التعصبية و أصبح من الصعب جدا على المفكرين مقاومة هذه السيطرة الدينية الجارفة.
و لهذا أيضا ارتباطه بالسياسة و النظام السابق الذي كان يقمع المفكرين و المثقفين الغير متفقين مع سياساته مما ترك الساحة خاليه أمام التيارات الدينية السلفية Salafists و التي لا تتدخل في الشئون السياسية - و لديها مبرراتها الدينية التي تبعدها تماما عن شئون السياسة – و قد ساعدت هذه التيارات الدينية في تغييب المواطن المصري عن الواقع الذي يعيشه و أعطت الحاكم شرعيه للقمع و التسلط و كان لصعود هذه التيارات السلفية أثره في تضييق الحريات الدينية في مصر لما تحويه هذه التيارات من أفكار تدفع إلى التضييق على الأخر و الانغلاق و التشدد.
و مما لاشك فيه أن يحدث صدام بين الأفكار التي تحملها هذه التيارات و بين الأفكار التنويرية التي تعقب الثورات عادةً, و لقد كان شعور فلاسفة النهضة الفرنسيين بالعداوة تجاه الدين و الكنيسة هو نتيجة طبيعيه لسيطرة الكنيسة على المجتمع و ما يدور في فلك أفكاره بل و تواطئها في هذا الوقت مع نظام استبدادي سلطوي
ولتفادى هذا الصراع في مصر الذي سيكون محتدما إذا حدث يجب علينا أن ننتقل تدريجيا بالدين داخل العقل المصري من موقعه الحالي إلى مكانته الطبيعية, و تصعيد العقل و العقلانية لتصبح هي مصدر الأفكار و أساس المعاملات و القوانين المنظمة لها و قد كتب ديدرو في مقاله عن العقل ( أننا أناس قبل أن نكون مسيحيين ) و على المصريين أن يدركوا أنهم أيضا أناس قبل أن يكونوا مسيحيين و مسلمين و بمعنى أخر فان "الاعتقاد الديني هو مسألة فرديه"
الإيمان بهذا المفهوم - أن الاعتقاد الديني هو مسألة فرديه - هو أول الخطوات التي ستضعنا مباشراً أمام دوله مدنيه انطلاقا من حرية الكل في الاعتقاد طالما أنها مازلت مسألة فرديه و لا تتعرض للعلاقات أو التعاملات و لهذا أيضا ارتباطه بالحريات الاجتماعية لما للدين من تأثير على علاقات البشر بعضهم و بعض و تحديد سقف للحريات الاجتماعية لذلك فان ما أن يفهم الدين و الاعتقاد الديني على انه "مسألة فرديه" هنا فقط يستطيع القانون أن يحل محل الدين ليحدد هو سقف الحريات و طبيعة السلوك و المعاملات بين المواطنين و من ثم ينظم القانون هذا المفهوم عن طريق تشريعات أولا تحفظ الحرية الدينية لصاحبها و تحميها و ثانيا تنظم الحريات الاجتماعية انطلاقا من مفهوم أخر لهذه الحريات غير مبنى على الدين.
طه حسين, احد رواد النهضة المصرية في أوائل القرن العشرين كتب احد أكثر الكتب إثارة للجدل في مصر عام 1926 (في الشعر الجاهلي) و اتفق معه البعض كما اختلف معه البعض الآخر, رغم أن الكتاب يحمل وجهة نظر دينيه تخالف كل السائد في هذا الوقت, إلا انه وجد مناصرين و منتقدين و احتدم النقاش على صفحات الكتب وقتها و في جلساته الفكرية حول هذا الكتاب, و إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن المصريين لديهم قبول واسع للأخر و ليسوا عشاقاً للقمع الذي تركه في نفوسهم النظام السابق.
فالمصريين ليسوا متعصبين دينيا بطبيعتهم و قد شهدت مصر سنوات من الحرية الدينية و كانت على مدار قرون تحتضن كل الأشكال العقائدية, و لتعدد الالهه عند القدماء المصريين مدلوله لمدى تقبل المصريين لفكرة الاختلاف الديني و لكنه و للقمع الغير مسبوق الذي
مورس على المصريين في الفترة ألأخيرة و على المتدينين منهم ممن لديهم آراء تزعج النظام السابق كان المصريين يقومون بما يشبه الهجرة في التاريخ داخل العقل لما هو أفضل من وجهة نظرهم و لما يعطى لهم من بريق للهويه المفقودة في الواقع الذي يعيشونه و لما يعطى لهم أيضا من كرامه سلبت منهم في عهد النظام السابق و ربما أيضا لأن الحلم بالحياة الأخرى و التي هي بالتأكيد الجنة هو أفضل من معايشة واقع اليم فرضه القدر عليهم
إذن هم هربوا من الواقع إلى حاله من التدين و قد ساعد على هذا صعود التيارات الدينية الأصولية و أفكارها القادمة من الجزيرة العربية لما تشكله من محفز لهذا التدين و وقود له و هذه الأفكار صاحبتها أفكار تعصبيه ضد الأخر مما خلق نوع من الأنانية و التعنت الديني, و للخروج من هذه المعضلة لابد لنا أولا أن نعيد للعقل مكانته لدى المصريين فالعقل هو الدافع الحقيقي وراء التسامح الديني و ليس الدين و لا يمكن أبدا السيطرة على الأخر باسم الدين لأنه سيؤدى بالضرورة للانتقاص من حريته.
بالرغم من سطوة رجال الدين أحيانا و قمعهم للأفكار إلا أن الأفكار لا تقمع و لا تموت أبدا و لقد كان الحرق العلني لكتاب ( رسائل فلسفيه ) لفولتير عام 1734 بحجه انه مخرب و انتهك حرمة المقدسات كان سببا في نجاح الكتاب بشكل قوى و دفع فولتير إلى كتابة المزيد من الكتب المشابهة و كذلك كتاب ( عن الروح ) لهلفتيوس و الذي احرق علانية من قبل الكلية اللاهوتية فزادت شعبية الكتاب بشده و ترجم إلى كل اللغات الأوروبية.
و هناك الكثير من الكتاب و المفكرين المصريين الذين دعوا إلى الحرية الدينية و تبنوا ما يطلق عليه "الإسلام الليبرالي" أمثال "محمد عبدو" و "طه حسين" و "فرج فوده" و لقد هوجمو فيما بعد لأفكارهم الليبرالية و قتل احدهم لنفس السبب ( فرج فوده ) و لكن الأفكار تعيش للأبد و لا تموت و لا تسقط إلا بأفكار مضادة لها.
لا مفر من تكريس هذه المفاهيم في نفوس المصريين باستخدام كل وسائل التعبئة الممكنة, و لن يستغرق هذا كثيرا فأعتقد أن المصريين في غالبيتهم يتبنون الحد الأدنى من الحريات الدينية ربما ينقصهم اكتمالها فقط و هناك من سمات المصريين الموروثة ما يعزز هذه الحريات, فالمصريين يهوون العلاقات الاجتماعية و تربطهم أواصل أكثر بكثير من أن تكون دينيه, و قبولهم لبعضهم البعض هو الأقرب من اختلافهم, يبقى لنا فقط العمل على توعيتهم بهذه القيم أكثر و سن القوانين التي ستحافظ عليها.